السبت، 27 سبتمبر 2014

الفصل (و1) – رشدي راشد - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (و1) رشدي راشد Roshdi Rashed


بقلم: عزالدين كزابر
الأستاذ الدكتور رشدي راشد
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم


حفل استلام رشدي راشد جائزة الملك فيصل العالمية سنة 2007
يقول الأستاذ الدكتور رشدي راشد[2]،[1]:
العقل والقانون يكفيان لحماية الإنسان والحضارة، أما الدين فهو علاقة بين العبد وربه.
 ويقول[3]
للأسف لم ننجح فى مصر أن نجعل من العلم قيمة اجتماعية، لأن هذا يتطلب أن نعترف بالعقل بصفته القيمة الاجتماعية الأولى، وهو أمر لم يحدث نتيجة ديكتاتورية الحكم تارة، واللعب بالدين تارة أخرى.
نقول: هل متابعة الدكتور رشدي راشد دراساته المرموقة في حضن الحضارة الغربية – حتى وإن كان موضوعها تاريخ علم الرياضيات العربية - هو علة هذا الحكم الإقصائي للدين الإسلامي من صلاحية إدارة حياة المسلم والمسلمين (العلمية والسياسية والاجتماعية – على نحو ما سنرى)؟ - ربما. ولكننا نعلم أنه أحد العلماء الـمُبرّزين والمشهود لهم برصانة الفكر، وجلائل الأبحاث، والدراسات والمؤلفات، وكشوف المخطوطات المرموقة، والروابط التاريخية العلمية المطمورة، وفي ماذا؟ في تاريخ العلوم وفلسفتها، وخاصة العلوم العربية في الرياضيات والضوء، التي واكب نضوجها انتشارها وانتقالها إلى أوربا. أي أنه عالمٌ شاهدٌ على آثار ميلاد هذه العلوم، وكيف نمت وازدانت في حدائق الفكر العربي (الإسلامي)، بل لقد وقف على عيون هذه الآثار بنفسه، وقال فيما قال[4]
أدت الفرائض الدينية، من صوم وصلاة وحج – إلى أبحاث فلكية كان لها جل الأثر في رُقِي علم الهيئة. وأدى علم الميقات والوظيفة الاجتماعية الجديدة – أي وظيفة المؤقّت (تعيين مواقيت الصلوات) – إلى تمثُّل الثقافة التقليدية للبحث العلمي. وساعدت الدواوين والوظيفة الاجتماعية الجديدة – أعني الكاتب – على تقدم الحساب والجبر (وربما أنه نسى هنا أن أهم باعث على علم الجبر كان علم المواريث، ولكنه سيتداركه). ... 
واستكمل قائلاً: 
أسهم في النهضة العلمية (يقصد العربية-الإسلامية) نهضة أخرى سبقتها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أعني علم الكلام وعلوم اللغة والتاريخ والفقه والتفسير وغيرها. فثمة ملابسات لها وزنها اكتنفت نشأة هذه العلوم التي أعدت وحثت على الاهتمام بالعلوم الرياضية وغيرها. وكمثال على هذا، نذكر كتاب العين للخليل وظهور أول علم معجمي في التاريخ. كان هذا العمل يقتضي معرفة متقنة بعلم الأصوات وكذلك بمبادئ حساب التوافيق والتباديل لحصر ألفاظ اللغة. وهو ما أخذ به الخليل. وباختصار أثارت هذه العلوم الاجتماعية والإنسانية العديد من المسائل التي تطلب حلها الأخذ بالعلوم الأخرى من رياضية وغيرها وتطويرها، أو ابتكار علوم جديدة – مثل علم التباديل والتوافيق – وهيأت هذه العلوم الاجتماعية جمهورا كبيرا من المهتمين بالعلوم الأخرى، وكذلك الوسائل اللغوية، مما أعد اللغة العربية لاستقبال المعارف الجديدة.
 ... ونلاحظ جيداً أنه يسمي (علم الكلام وعلوم اللغة والتاريخ والفقه والتفسير وغيرها .. أي العلوم التي نشأت بسبب الإسلام) يسميها (العلوم الإنسانية والاجتماعية) !!! ... وهي تسمية تطمس إسلاميتها .. وتلحقها بالاجتماعيات والإنسانيات من حيث أنها إذا مست الدين – في أي مجتمع إنساني- فإنما تمسه من حيث هو سلوك اجتماعي. وهذا التصنيف والتسمية تقلب التبعية، وبدلاً من أن يحمد للإسلام أنه كان باعثاً على أرقى اجتماعيات وإنسانيات رأتها البشرية، جعل من الإسلام محض دين يدرج في الدراسات الاجتماعية كأي اعتقاد إنساني آخر، كالبوذية مثلاً !!! وكأنه محض ظاهرة، لا أنه المفجر الحقيقي لثورة علمية لم ترَ مثلها البشرية، وأنه قادر على تفجير ثورات أخرى متتابعة، ولكن، لمن يستحقها.
ولا بد أن نلمح اعترافه بأن العلوم التي نشأت لخدمة القرآن؛ من لغة وتفسير، وفقه، قد انفرجت أمامها أبواب علوم جديدة، اقتحمها الفكر الإسلامي بجرأة وقدرة بالغين، وكان مما ذكره منها علوماً رياضية لم يعهدها الفكر الإنساني من قبل. .. فكيف إذاً يكون الدين (ليس إلا) علاقة بين العبد وربه، وهو الذي أخرج هذه المخبوءات من كنوز المعارف إلى مصاف المدارك؟!
[إضافة إلى (ذلك) يرى راشد أن ظهور المدارس الفقهية المختلفة ووجود مشكلات في تفسير النصوص وتطبيقها على الواقع أدى إلى ظهور العلوم الإنسانية أولا ثم بعد ذلك العلوم الطبيعية والترجمة عن اليونانية. ويرى راشد أن ذلك كله كان نابعا من قبول فكرة التعددية في الفكر الإسلامي القديم (ربما يقصد السلفي بغير اسمه)][5].. وما يدعم ذلك قوله[6]: 
من العهد الأول بدأت مشاكل حقيقية وكانت في التفسير والتدليل، وفي الوقت نفسه بدأ الاهتمام بالعلوم الإنسانية والبحث في العلوم الإنسانية، وتأسست مدارس، ومدارس منافسة سمح لها بالتنافس مع سواها، وظهرت في الكوفة والبصرة وبغداد، ثم في الاماكن الأخرى بالعالم الإسلامي، كما ظهرت علوم أخرى لم تكن معروفة من قبل.
فلو أخذنا -على سبيل المثال - أعمال الخليل بن أحمد في اللغة وتطبيقه للرياضيات على اللغة، واختراعه لمواضيع جديدة في اللغة. أو أخذنا من جانب آخر الفقه، نرى كيف ظهرت المدارس الفقهية أيضا مثل مدارس الحنفية والشافعية وغيرهما التي بدأت تطبيق الرياضيات في حساب المواريث وحساب الفرائض مما أدى إلى فكرة تطوير علوم أخرى وإدخال الرياضيات.
مثال على ذلك الشيباني الذي كتب نسخة من كتاب في حساب الفرائض، ليظهر علم جديد من الحساب يفرض الاختلاف والتناقض، فالشيء الأساسي هو ظهور فكرة التناقض، دون وجود لفكرة التكفير، والسماح بالتعددية منذ البداية، مما ساعد على ظهور الكلام الذي له أيضا أصول اجتماعية، فمنهم من ترجع أصوله إلى فارس والإمبراطورية البيزنطية ـ حيث لديهم عقائد مختلفة.
ظهرت هذه المسائل الفلسفية العميقة مما شجع على حركة الترجمة، وأخذت الدولة المبادرة في الترجمة، ولم تقُل إن هذه علوم كفرة، أو إنها علوم غير أصيلة، ولا قيل إن كل العلوم اليونانية هي علوم غير أصيلة، فقد استوعبت بشكل ضخم وخلاق احتياجات جديدة، وأصبحت هناك سوق بمعنى الكلمة، سوق للفكر وسوق للفلسفة وسوق للعلوم.
كان هناك علماء وفقهاء ولغويون يحتاجون إلى ثقافة مغايرة غير الاحتياجات العلمية الأخرى، مثل الفلك. الشيء الأساسي كان التعدد والاحتكام إلى العقل بوجود النص. وبالنظر مثلا إلى نظرية القياس التي كانت تدور حولها مناقشة ضخمة، وهل نقبل بأحكام القياس أو لا نقبل فقد كان هناك تعدد في الآراء لدى المذاهب الأربعة كافة كما كان لعلماء الشيعة آراء أخرى، فالأمور كانت تؤخذ هكذا، فلم توجد تلك التعقيدات التي - مع الأسف - بعضها موجود الآن. هذا التعدد والاختلاف والاحتكام إلى العقل خلق هذه الحال.
ورغم كل ذلك، بدا وكأن رشدي راشد لم يرَ أثر القرآن - الريادي والفريد بلا منافس - في نفوس معتنقيه، وكيف أنه الباعث الأول والحافز المتوقد الذي أطلق عقالهم! ... أم أنه يرى أنهم صنعوا حضارة بلا باعث، ولا حافز؟! .. فإن لم يكن الإسلام .. الذي تفوح حكمته في مدوناتهم وما أثمرت من علوم أتى على ذكر بعض منها، وغيرها من أعمال في الطبيعيات كالتي أخرجها ابن الهيثم، وقد حققها رشدي راشد على غير مثال سابق من التحقيق، والهندسة الكروية التي أطلقها ضبط اتجاهات القبلة على سطح الأرض المكوّر، وغير ذلك من فيوض الأعمال العلمية الباهرة!! .. فإن لم يكن القرآن القلب النابض لهذا الحراك العلمي، فمن يكون؟!
والسؤال هو: كيف يرى رشدي راشد القرآن إذاً وقد انحسر إلى علاقة خاصة بين المؤمن وربه، كما زعم، وانغلق عمّا سوى ذلك. وهل الرب جل وعلا لم يُعَلِّم المؤمن ويأمره بكيف يمارس الحياة والفكر والعقل والتعقل، والخلق والوجود والحكم والسياسة، ونصب الأحكام على الأشياء. وهل هذه الأخيرة شيء غير القانون، أي الشريعة؟! – على خلاف ما يقوله وصدّرنا به الكلام أعلى، حين قال: [العقل والقانون يكفيان لحماية الإنسان والحضارة]- وهل الدين شيء غير قانون إلاهي، يحمل النص في عقل وقلب المؤمن، وتتردد روح النص بين جنبيه؟!
وعندما سُئل رشدي راشد : ألا يمكن لنظريتك الخاصة بتطبيق الرياضيات فى العلوم الإنسانية، أن ترسم لنا طريقاً للنجاة؟ - أجاب[7]: ... 
الحل ببساطة يتلخص فى نشر التفكير العقلى، وفصل الدين عن الدولة، لا بالمعنى التافه للكلمة، ولكن بمعنى إبعاد الدين عن السياسة بكل الأشكال، ..
هناك موقف من الدين إذاً – الإسلام هو المقصود هنا. وهل كان السياسي الأول للمسلمين إلا نبياً رسولا؟ – صلى الله عليه وسلم، وهل خاض العلاقات الدولية إلا بمعاهدات، ودفاعات، وغزوات، وانتصارات منها ما نجح ومنها ما كان حافزاً لمزيد من النجاح، ثم مهادنات، ومناورات، وتشريعات. وهل كان يفصل بين سياسته ودينه، وهل خلا الوحي من الحديث في السياسة، بل كان الوحي – دون غيره - هو معلمه، .. ومن ورائه – صلى الله عليه وسلم - المؤمنون جميعاً – بحق - إلى قيم الساعة، وبرسالته الباقية أبداً؟!
ويؤكد رشدي راشد موقفه من الإسلام السياسي عندما سُئل[8]: (هل كان المشروع الإسلامي معوقا لهذه النهضة أم كان جزءا منها؟)، اجاب وقال:
ليس هناك مشروع إسلامي‏، هناك عدة مشاريع إسلامية،‏ منها المشروع الإسلامي السلفي،‏ ومشروع الإخوان المسلمين‏،‏ وهناك نوع من الليبرالية التقليدية المصرية‏،‏ التي هي مثقفة ومسلمة‏.‏ الإسلام السياسي هو مشروع خيالي وأعرف أنها كلمة قاسية فليسامحني من يقرأها‏، هو مشروع بدون مشروع‏، وعندما تقول إن الإسلام هو الحل،‏ فأنت لم تقل شيئا،‏ فهو حل ماذا؟ حل للمشكلة الاقتصادية‏..‏ التعليمية‏..‏ الاجتماعية‏،‏ حل مشكلة توازن القوي في العالم،‏ حل مشكلة إسرائيل،‏ حل مشكلة المهزلة والجريمة التي تحدث في العراق‏،‏ أي حل من هذه الحلول‏،‏ وما الإمكانيات والوسائل‏، هذه عبارات جوفاء‏،‏ وليس وراءها برنامج بالمعني الحقيقي للكلمة‏، ولا تحليل للمجتمع،‏ ولا للفترة والعصر ولا لميزان القوي‏،‏ أنا لا أقول بإتباع التهادن أو ما يقوله الآخرون إطلاقا‏،‏ ولكن هذا شكلي شعبي في الحديث عن الإسلام‏،‏ فيه شعاراتية وليس فيه مشروع‏.
نستغرب هذا الرد من عالم رصين في قيمة الدكتور رشدي راشد! .. فليس تعدد المدارس العلمية في معالجة علمٍ ما بدليل على دحض هذا العلم، وإلا لكانت نزاعات الكوفييين والبصريين في اللغة دليلاً على فشل التقعيد العربي للغة!، ولكانت خلافات الكلاسيكيين والكموميين من الفيزيائيين دليلاً على فشل علم الفيزياء!! .. ويقال مثل ذلك في كل علم رأته البشرية ورأي النور بعد مخاض عسير بين نزاعات العلماء. وعلى ذلك تكون العبارة الإجهاضية [ليس هناك مشروع إسلامي‏، هناك عدة مشاريع إسلامية ..] عبارة منهزمة الحجة، خاوية المعنى.
وعندما يستنكر الدكتور رشدي راشد الحل الإسلامي بلا تحقيق، ويقول: [عندما تقول إن الإسلام هو الحل،‏ فأنت لم تقل شيئا،‏ فهو حل ماذا؟ حل للمشكلة الاقتصادية‏..‏ التعليمية‏..‏ الاجتماعية ..‏] نراه استنكاراً متحاملاً، ... ولو رأى، لرأي كيف أثمر الحل الإسلامي في الاقتصاد كما هو شائع ومعلوم، ولو أفسح له المجال في غيره لرأى من نجاحاته العجب العجاب .. غير أن السياسيين الذين اشتكى هو منهم يمنعون ذلك حتى لا يعلم للإسلام نجاح، كما رأينا في الثورات العربية التي أُجهضت! .. فكيف حكم رشدي راشد على فشل الحل الإسلامي بلا تقييم تجريبي؟! ... أين الموضوعية العلمية، وأين العدالة التحقيقية؟! .. أم أنها مُكرمة في أي مجال عبثي متشحاً بلباس العلم زوراً وبهتانا، .. إلا أن يقتحمه ناطق بالإسلام والقرآن، فتكون مبادرته الاتهام بالفشل، وإلقاء التشنيعات القِبلية بلا مبرر ولا وازع إلا عن انطباعات تحطيمية، لا يعلم إلا الله تعالى بواعثها، كما قال سبحانه في مثال فج من أمثالها: "يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا"(الحج:72).
نقول أن فقدان الثقة في قدرة العطاء المكنونة في القرآن وذخيرته للأجيال المتتابعة هو المصدر الوحيد لمثل هذا الموقف، الذي يتهم اللجوء إلى القرآن في كشف علاجات المجتمعات المعاصرة بأنها محض شعارات. وتتآلف هذه الذريعة المجهضة، مع دعوته في قصر الدين على العلاقة بين العبد وربه، أي الطقوس والروحانيات ، .. ثم مع سبب آخر سنراه من الموقف التالي، يرتبط بانتشار المسلمين في بعض دول العالم على صورة أقليات، وترى أنه في غير مصلحتها بزوغ أي دعاوى سياسية حضارية إسلامية ينتج عنها اضطهادهم حيثما يقطنون بين أغلبية من غير المسلمين.
فعندما سُئل (رشدي راشد): (تؤمن بالعلمانية كفكر للخروج من مأزق ضياع الحضارة إذاً؟)[9] - أجاب:
أؤمن بحرية العقل، وسيادة النظام على الجميع، لماذا ننادى بفصل الدين عن الدولة فى فرنسا أيضاً؟ لحماية حقوقنا كمسلمين وكعرب هناك كأقلية. العقل والقانون يكفيان لحماية الإنسان والحضارة، أما الدين فهو علاقة بين العبد وربه، لا يجب أن يُستخدم لتحقيق مصالح سياسية.
إذاً هناك خوف للجاليات العربية والإسلامية من أهل الكتاب الذين يكتنفونهم – نلمحه في كلامه عن كونه عضو في أقلية من المسلمين- وذلك إن طبقوا دينهم سياسياً على المسلمين، أن يظلموهم، مثلما حدث بالحروب الصليبية، عندما جاءوا واحتلوا القدس وأبادوا جُلَّ أهلها من المسلمين. ولكن، هل فعل المسلمون ذلك يوم فتحوا البلاد وطهروها من الشرك والظلم والاستبداد. أم أن التضحية بنزاهة الإسلام السياسي – في مناصرة فصل كل دين (مسيحي أو يهودي أو إسلامي) عن السياسة - هو الثمن الذي يجب أن ندفعه لدرء ظلم أهل الكتاب عن المسلمين في فرنسا؟ ..السياسة علم إدارة قوامها الاخلاق، ولم يمارسها بشرف وكرامة إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهل وجد رشدي راشد سياسياً أشرف من رسول الله يقتدي به؟! وإذا اقتدى به، في العقل والعلم والسياسة، هل سيكون على نهج الإسلام، أم العلمانية؟! .. وإن كان يخشى من حكومة دينية مسيحية في فرنسا ليعيش آمناً فيدعو إلى فصل الدين عن السياسة والعلم، ووأد الدين في الكنائس والمعابد، فما ذنب الإسلام؟!
ومن فضائل الإسلام التي امتدحها رشدي راشد موعزاً إياها إلى غير الإسلام: (مفهوم عالمية العلم). حيث (يمثل مفهوم عالمية العلم عنصرا أساسيا في منهج الدكتور راشد. وهو بذلك ينقد ويرد على المركزية الغربية التي ادعت أن العلم لم ينشأ سوى في الغرب سواء اليوناني القديم أو الأوروبي الحديث. كما ينقد من خلال منهجه هذا المفهوم النقيض القائل بالاختلاف الجوهري للعلم العربي باعتباره مرتكزا على الدين الإسلامي، أي مفهوم إسلامية المعرفة. ويرد المعرفة بدلا من ذلك إلى الشروط الاجتماعية المصاحبة لإنتاجها في إطار من صورة عالمية تطورية للعلم.)[10] وذلك عندما قال رشدي راشد[11]
العلوم تراث إنسانى وعالمى، والغرب بدأ الاهتمام بتاريخ العلوم العربية منذ الخمسينيات، وأكبر جزء فى التراث العربى، هو الخاص بالعلوم، التى لا تعتمد على التصديق بل البرهان، وهو ما يعنى أن أى فرد يمكنه التعامل مع نتائجها مهما كانت أيديولوجيته التى يؤمن بها. فما انتقل لأوروبا من حضارة العرب، هو العلوم والفلسفة، وكذلك كان ما وصل من حضارة اليونان للعرب، فترجموه ودرسوه وأضافوا عليه.
وهذا هو مفهوم عالمية العلم، وما فعلته أنا وزملائى، كان بدافع أن الجزء العربى فى العلوم لم يأخذ حقه من البحث والتطوير، وهذا ليس خطأ العرب وحدهم، بل خطأ شارك فيه الاستعمار الذى علمنا منذ سنوات طويلة أن العلوم أوروبية المنشأ والتطور والمصير، وهو أمر يجب أن ينتهى ولن يحدث هذا بالخطب ولكن بالعمل العلمى والبحثى.
والجدير بالملاحظة هنا ثلاثة مزايا إسلامية دينية:
1- أن عالمية العلم فرع على عالمية الإسلام، وهي في الأصل دعوة إسلامية زعيمها القرآن، كما قال تعالى " لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا "(النساء:123-124)
2- وأن بناء (العلوم، التى لا تعتمد على التصديق بل البرهان) هي أيضاً دعوة دينية إسلامية، زعيمها القرآن، كما في قوله تعالى " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ "(البقرة:170)، وقوله تعالى " قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "(النمل:64)
3- أن العادات الاجتماعية – التي يعول عليها رشدي راشد في تطوير العلوم العربية - والتي احتضنت رؤى حضارية مختلفة، واستوعبتها، ونمت بها، هي أيضاً دينية إسلامية، زعيمها القرآن.
فبأي معنى يُنكر رشدي راشد مصدر هذه الدعوات، والبواعث، والمحفزات – أقصد القرآن – في قدرته وفعاليته في بعث الحضارة فيما سبق، وفيما يلحق من زمن؟! .. أللهم إلا أن يكون له دوافع أخرى، كما رأينا، من تسمية الدين الإسلامي بالظرف الاجتماعي الإنساني، ومن تخوف على الأقليات الإسلامية من بطش غيرهم بهم بإسم الدين أيضاً، فيكون الأمر ليس إلا سداً للذريعة الخاصة، حتى لو كان الثمن التضحية بقيم الدين الإسلامي الحضارية!!!
وكما ألمحنا أن رشدي راشد يُسمّي الفعل القرآني - وما أثمر من علوم في اللغة والفقه .. إلخ - في نفوس معتقديه "العلوم الإنسانية والاجتماعية"، نجده يربط بينها وبين تطور العلوم الرياضية ربطاً لا فكاك منه لفهم تطور العلوم، ويثبته وينفي التعارض ويقول[12]:
 ليس هناك تناقضفلا يمكن أن تبحث في مجال وتنسى آخر. مثال على ذلك في عام 820 ظهر علمٌ جديد وهو علم الجبر وحتى أفهم ظهور هذا العلم تدخل العلوم الانسانية أولا ـ بمعنى أنه لفهم كيفية ظهور علم الجبر لابد من العودة إلى علم اللغة، وعلم الفقة ـ فحين تدرس تاريخ العلوم فإنك لا تدرس وقائع فقط، بل تدرس فكرة علمية، وفلسفة علمية، وتدرس مضمونًا علميا وأشياء عديدة في الوقت نفسه. فليس هناك تناقض بين تدريس التاريخ العلمي والتجديد باللحاق في العلم الجديد.
 رغم أنه نفاه من قبل عندما سماه باسمه "الدين"، وقال  حينها: [العقل والقانون يكفيان لحماية الإنسان والحضارة، أما الدين فهو علاقة بين العبد وربه]!! .. وكأن ما يُثمره الدين من فعل علمي ليس من فعل الدين، بل من الإنسانيات والاجتماعيات!!!
فهل ينفي رشدي راشد "فعل الدين العلمي" للفرد ويثبته للجماعة، ويُسمِّيه عندئذ "العرف/الظرف/العلم الإنساني الاجتماعي"، .. قد يحتمل إثباته ونفيه في السياقين السابقين ذلك، ولكننا نستبعد تماماً أن هذا ما يقصده، حتى وإن سلمنا أن العلم في تطوره ينحو غالباً منحى الأعراف الاجتماعية الجديدة، حتى وإن بزغت أضواؤه على يد فرد أو أفراد قلائل.
- ومن حيث أن ارتباط العلم العربي في المجتمعات التي ظهر فيها هو أساساً ارتباطٌ بالإسلام والقرآن مهداً وإرشاداً ورعاية، يقول رشدي راشد – ربما دون أن يقصد - [13]:
لا يمكن بحالٍ فهم الحضارة العربية – الإسلامية منذ بدايتها دون الوقوف على البعد العلمي فيها. فالعلم كان بعدا أساسيا للمدينة الإسلامية. بل ليس هناك مدينة قديمة أو من العصر الوسيط، أو حتى من القرن السابع عشر، كان العلم فيها بعدا أساسيا مثل المدينة الإسلامية. وطوال التاريخ الإسلامي لم يهاجم العلم مرة واحدة، أما المرات القليلة التي اضطهد فيها المفكرون، فقد تعلقت كلها بالفلسفة، أي بنظرة "قدم العالم" (ابن رشد) أو بـ "وحدة الوجود" أو "الحلول" (الحلاج والسهروردي). بل إن أكثر الفقهاء تشددا – ابن حزم، ابن تيمية – لم يهاجموا العلم قط. فإذا رجعنا إلى التاريخ فسنجد مع بداية الدولة العباسية نهضة علمية لا تقل أهمية عن تلك التي سنشاهدها إبان القرن السابع عشر في أوروبا.
وربما آخر نتيجة نُرجَّحها في تحليلنا لتحليل رشدي راشد، أنه إنما أراد تعظيم العلم العربي قومياً – وخاصة أن نشأته الثقافية كانت في أجواء عروبية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين – وأنه لم يُرِد تعظيم العلم العربي إسلامياً قرآنياً !!! .. بمعنى أنه رأى أن العرب – بعروبتهم لا بإسلامهم – قد تقلدوا دورهم التاريخي – فيما ورثوه من الأمم السابقة عليهم - وفي حلقة تاريخية بارزة من حلقات الحداثة العلمية المتتابعة، التي سبق الإشارة إليها، وأن تقاليدهم الإنسانية والاجتماعية والسياسية – والتي تصادف أنها إسلامية ولم تنتج عنها بالضرورة- فيما بين القرن الثامن والسادس عشر الميلادي قد تلاحمت لتثمر ما أثمروا من علم عربي. ومما يزكِّي هذا المعنى فيما يلي من كلامه، أنه في نهايته سينفي عنها أي نكهة إسلامية، وأي روح دينية أججت تلك الحماسة العلمية التي توقدت وأبدعت ما أبدعت!! .. يقول[14]
إن أراد الدارس المتعمق للعلم العربي أن يصفه جملة، أي يصف جوهره، ظهر له بوضوح شديد أن هذا العلم ما فتئ يحقق ما كان كمون الوجود في العلم اليوناني. فما يجده عند علماء الإسكندرية جنينيا، أعني الاتجاه لتخطي حدود منطقة ما ولكسر طوق ثقافة معينة لاكتساء أبعاد العالم بأسره، نراه قد أصبح واقعا مكتملا في علم تطور حول حوض البحر المتوسط لا كرقعة جغرافية فحسب، بل كبؤرة تواصل وتبادل لكل الحضارات التي ترعرعت حول هذا الحوض، مركز العالم القديم، وكذلك في أطرافه؛ فكلمة "عالمي" هي أنسب وأصح الكلمات لوصف هذا العلم العربي الجديد: كان هذا العلم عالميا بمنابعه ومصادره، عالميا بتطوراته وامتداداته، فعلى الرغم من أن أغلب مصادره ومنابعه هيلستينية إلا أنها تضمنت أيضا مؤلفات سريانية وسنسكريتية وفارسية. من المعروف أن هذه الينابيع لم يتدفق منها نفس الفيض ولم يكن لها نفس التأثير. ولكن الجدير بالالتفات إليه هنا هو تعددها واختلاف أصولها، فهذا التعدد وذاك الاختلاف كان لهما دور هام في صياغة بعض ملامح العلم العربي. هذه السمة تشترك فيها كل حقول العلم بما فيها أكثر الحقول يونانية مثل الرياضيات. من الممكن دون أدنى تردد أو حرج نعت الرياضيات بهذه الصفة لأنها وريثة الرياضيات اليونانية، ولكن إن أحببنا التأريخ للرياضيات العربية علينا العودة إلى المصادر الأخرى من بابلية وسنسكريتية لفهم ما تم في حساب المثلثات وفي التحليل العددي. والمؤرخ الواعي المدقق لا يفوته في هذه الحال أن يقف على الإطار الجديد للرياضيات قبل أن يغوص في دراسة النتائج الموروثة، عليه أن يحلل ويصف ظواهريا إن صحت الكلمة اشتراك كل هذه التقاليد الرياضية واندماجها في المجتمع الجديد. ومما يجب الانتباه له أيضا أن هذه الظاهرة لم تكن وليدة الصدفة ولا نتاج الحظ. فالتقاليد العلمية التي تمثلها علماء الحضارة الإسلامية لم تنقلها قوافل التجار ولا سفن البحارة ولا جيوش المجاهدين. بل كانت ثمار تنقيب وبحث عن كتب القدماء قام بهما علماء فحول.
لا نرى أن رشدي راشد قد أنصف بحجب الفعل الإسلامي عن قيادة البعث العلمي العربي. فالذي سرى في بدن الأمة روح جديدة، وعالمية إسلامية بلسان عربي، ما كان لها أن تنبعث بأي روح عربية جدباء من الإسلام. والذي جعل فحول العلماء يسعون في التنقيب والبحث عن الحكمة حيثما يجدوها، كانت روح القرآن وآياته الباهرات التي أحيت موات، وحكمة نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم، التي رفعت عن نفوس المؤمنين آصاراً وأغلالاً وجمعت شتات. وهذه الروح قد سرت حيثما تنقلت قوافل التجار، وسفن البحارة، وجيوش المجاهدين، لأنها مثلت الجسور التي عبرت القارات، واجتازت النيل والفرات. وهل فارس والأندلس وعلماؤها أصبحوا كذلك بلا سفن ولا جيوش تصل إليها، ولا تجار يتنقل في صحبتها الأخلاق والعلماء، وهل كانوا عرباً صرفاً، أم جمعهم الإسلام جمعاً، عرباً وعجما، فرساً وبربرا، كرداً وسريانا، سوداً وبيضا؟! .. نعم .. إنها بعث الإسلام .. وليست بعث العرب. قال تعالى " لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(الأنفال:63).
والحق يقال، أن رشدي راشد لم يجهض حق الإسلام بالكلية في قيمته العلمية، وخاصة عندما قال[15]
التراث الإسلامي لم يكن لغة ودينا وأدبا فحسب، بل كان أيضا علوما وفلسفة ومنطقا؛ وهنا وهناك كانت أصالة هذا التراث وعالميته وانفتاحه.
ولكنه جعله في ظل العرب، وكان أحق به أن يجعل العرب في ظله. ... وكلامه هذا الأخير كافٍ للرد على ما بدأنا به من قوله: [العقل والقانون يكفيان لحماية الإنسان والحضارة، أما الدين فهو علاقة بين العبد وربه.]، إلا إذا كان يريد من التراث الإسلامي، ما كسى العرب به دينهم، لا حقيقته، من حيث أنه "شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" .. وإن لم يكن الإسلام أنصع ما يتبدى فيه هذا المثل، فمن يكون؟! ... عسى الله تعالى أن يرينا من أُكُلِه اللاحق، كما أرانا من أُكُلِه السابق، إنه عزيز حكيم.

 المؤلف 


[1] البروفيسور رشدي حفني راشد، مصري الأصل، فرنسي الجنسية، ولد عام 1936م. حصل على ليسانس الفلسفة من جامعة القاهرة وليسانس الرياضيات ودكتوراه الدولة في تاريخ الرياضيات وتطبيقاتها من جامعة باريس. وعُيِّن باحثاً بالمركز القومي للبحث العلمي في باريس، وأصبح مدير أبحاث فمدير شرف للأبحاث من الطبقة الممتازة، وقد أدار وحدة الابستيمولوجيا وتاريخ العلوم الدقيقة، وقسم الدكتوراه في فلسفة العلوم وتاريخها، ومركز تاريخ العلوم والفلسفة العربية بالمركز القومي وجامعة باريس السابعة. وعُيِّن، أيضاً، أستاذ فلسفة الرياضيات وتاريخها بجامعة طوكيو، وأستاذاً زائراً في تاريخ الرياضيات والعلوم في عدّة جامعات. كما أنه يشغل رئيس تحرير عدد من الدوريات العلمية المرموقة، مثل:   Arabic Sciences and Philosophy: a historical journal، والتي تصدرها جامة كمبريدج،  و History of the Arab Sciences وهي من منشورات الجامعة اللبنانية لتاريخ العلوم العربية.
وقد أمضى البروفيسور راشد أكثر من أربعين سنة باحثاً في تاريخ العلوم الرياضية في الحضارة الإسلامية، وتطبيقاتها، فأعاد تحليل علاقة الرياضيات بالمناظر التجريبية عند ابن الهيثم وخلفائه؛ واكتشف مؤلفات العلاء بن سهل، التي تتضمَّن أول نظرية للعدسات ولعلم انكسار الضوء، وجدّد معرفتنا بما أتى به الحسن بن الهيثم، في الميدان نفسه، وما أتى به كمال الدين الفارسي؛ وبخاصة نظريته في قوس قزح. كما درس ما تُرجم من المؤلفات اليونانية، المفقودة أصولها، واكتشف مؤلفات علماء القرن الثالث الهجري؛ مثل قسطا بن لوقا والكندي، وكان أغلبها مجهولاً، فحقّقها، وقام بالشرح الرياضي والتاريخي لكلٍ منها. كما اكتشف أربعة كتب مترجمة لكتاب  Arithmetica لديوفنطس الاسكندراني. فُقدت جميعها في اليونانية، مجدداً بذلك تاريخ التحليل الديوفنطسي، فقام بتحقيق النص العربي ودراسة الخوارزميات التي لجأ إليها ديوفنطس مما سمح بفهم التحليل الديوفنطسي في الرياضيات العربية، وظهور التحليل الديوفنطسي الجديد على أيدي الخجندي والخازن والسجزي وأبي الجود، والرياضيين الأوربيين من بعدهم. وبيّن ما قام به الرياضيون المسلمون من أمثال كمال الدين الفارسي وثابت بن قرة وابن الهيثم وغيرهم. كما اكتشف العديد من النصوص الجبرية التي مكَّنته من إعادة كتابة تاريخ الجبر والهندسة الجبرية، وكيفية قيام رياضيي القرن الرابع وخلفائهم “بتحسيب الجبر”، واختراع جبر كثير الحدود (الكرجي والسموأل)، ونظرية الأعداد العشرية والعديد مما نسبه المؤرخون لرياضيي القرن السادس عشر والسابع عشر. كذلك أعاد تحقيق كتاب عمر الخيام في الجبر وحقَّق كتاب “المعادلات” لشرف الدين الطوسي، وترجمه وحلّله وأرّخ له ولتاريخ الرياضيات التحليلية والهندسة الكروية وعلم الهيئة، ونظرية ابن الهيثم في الحركات السماوية.
نشر البروفيسور راشد الكثير من البحوث والكتب – التي ربت عن ثلاثين كتاباً تحريراً وتأليفا - في فلسفة الرياضيات في الحضارة الإسلامية، وطرح نظرة جديدة حول تعاقب الفترات التاريخية لعلوم الرياضيات عند المسلمين. كما أشرف على إعداد موسوعة تاريخ العلوم العربية في ثلاثة أجزاء، بعدّة لغات؛ وموسـوعة تاريخ العـلوم في الحضـارة الإسلامية في ألف صفحـة باللغة الإيطالية. وأسس مجلة العلوم والفلسفة العربية التي تُصدرها مطابع جامعة كمبردج. وقد حصل – إضافة إلى جائزة الملك فيصل العالمية عام 2007م، على جوائز وميداليات من: المركز الفرنسي للبحث العلمي، والأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم، وأكاديمية العالم الثالث للعلوم، وهيئة اليونسكو، ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومعهد العالم العربي، وميدالية وجائزة أحسن كتاب في الدراسات الإسلامية من إيران. كما اختير عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، ومجمع اللغة العربية في دمشق، والأكاديمية الملكية البلجيكية، والأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم، وأكاديمية العالم الثالث للعلوم (قسم الرياضيات) والعديد من الجمعيات العلمية.


[3] رشدي راشد، جريدة المصري اليوم، 10 مايو 2009.
[4] رشدي راشد، "الوطن العربي وتوطين العلم"، ص7-8.
[5] " فلاسفة العرب - الدكتور رشدي راشد "، تحرير: سمير أبو زيد.
[6] رشدي راشد، حوار مجلة العربي الكويتية، إبريل 2007.
[7] رشدي راشد، المصري اليوم، 10 مايو 2009.
[9] رشدي راشد، المصري اليوم، 10 مايو 2009.
[10] سمير أبو زيد، "الدكتور رشدي راشد: فيلسوف ومؤرخ العلم"،

[11] رشدي راشد، المصري اليوم، 10 مايو 2009.
[12] رشدي راش حوار مجلة العربي الكويتية، إبريل 2007.
[13] رشدي راشد، "الوطن العربي وتوطين العلم"، ص 7.
[14] رشدي راشد، "العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ"، الفلسفة والعصر، العدد الثاني، يناير 2002، ص 31 -32.
[15] رشدي راشد، "العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ"، الفلسفة والعصر، العدد الثاني، يناير 2002، ص 35 – 36.

الخميس، 11 سبتمبر 2014

الفصل (هـ7) – محمد البغدادي - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (هـ7) محمد البغدادي

بقلم: عزالدين كزابر
بسم الله الرحمن الرحيم
في سياق تقديمه لترجمته كتاب "منطق البحث العلمي" لكارل بوبر، عدّد محمد البغدادي[1] الإشكالات المنهجية في الفيزياء في الأولوية المتنازع عليها بين التجربة والنظرية، وفي الاتساق المفقود سواء في النظريات الرياضيات أو الفيزيائية، وفي النظريات الفيزيائية وتبدلاتها، ثم قال[2]:
"لا يمكن للمرء في هذا السياق إلا أن يشعر بمزيج من الشفقة والأسى أمام محاولات بعض دعاة الدين، والمسلمين منهم على وجه الخصوص، إلباس الدين لباس العلم. وهي محاولات يائسة لأن الدين تعريفاً لا يخضع للفحص والتمحيص، ولا يُتحقق منه، ولا يمكن بالتالي تفنيده أو دحضه جزئياً أو كلياً، خلافاً للعلم. لا يعي هؤلاء الدعاة أنهم في محاولتهم العلمياتية البائسة إحاطة الدين بهالة العلم التي هو في غنى عنها إنما يهبطون بالدين إلى مستوى الفرضية ويرفعون عن أسسه طابع الحقيقة المطلقة وطابع الأزلية، وهما مفهومان لا يمتان إلى العلم بصلة."
نقول: من أغرب ما يمكن أن نقرأ عن الدين – ونقصد بذلك "الإسلام" باعتباره المقصود بالدين إذا تكلم عنه المسلمون – أن يقال أنه، بالتعريف، لا يخضع للفحص والتمحيص، ولا يُتَحَقَّق منه، ولا يمكن بالتالي تفنيده أو دحضه جزئياً أو كلياً" – ونقول: من أين جاء المتكلمون بهذه الغرائب في تعريف الدين، وكيف يتبع الإنسان شيئاً عارياً عن تحقيق المصداقية والتفنيدية، ولا يُحكِّم حواسه وعقله فيما يعرض له، إلا أن يكون بلا عقل، يُساق ولا يسأل إلى أين ولماذا؟! – بل ربما أنه أضل، كما قال تعالى "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ"(الأعراف:179).
وكيف يعتقد مسلم أن الإسلام وكتابه المجيد يوافق هذا التعريف، في الوقت الذي تعيب نصوص القرآن على المتبع غيره على غير هدى؟! –كما قال تعالى " قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"(البقرة:170).
وإذا كانت الدين – كل دين – يوافق هذا التعريف، فعلامَ تقوم حجة الله تعالى على خلقه فيما أنزل من دين ؟! - وكيف يكون هناك دينٌ حق ودينٌ باطل؟! ثم ثواب وعقاب؟َ وجنة ونار؟! – وكيف يمكن التمييز بين دعوى ودعوى، تنتسب كل منهما إلى حقٍّ تدّعيه؟ - هل الهندوسية والبوذية كالإسلام في التحقق والتفنيد؟ - فلماذا يسلم الناس إذاً، ولماذا ينتقلون من دين إلى دين؟ - هل الأديان مدارس في الرياضة الروحية، يتساكر فيها الناس، فأيهما يُسكر الروح أكثر يتدين به؟! - فليكن الخمر إذاً أحق الأديان بالاتباع!
إن الذي ينفي مصداقية الحق ومهلكة الباطل في الدين، من فحص وتمحيص وتحقق وإثبات وتفنيد، يفتح باب الباطل على مصراعيه فتلجه الناس إلى مصارعها، لا تجد في ذلك منه حرجاً!
الحقيقة أن المتكلم أعلى يستخدم هذا الادعاء لغرضه الذي يقول فيه، "لا يمكن .. تفنيده (أي الدين) أو دحضه جزئياً أو كلياً، خلافاً للعلم". وذلك لكي ينفي علمية الدين، ومن ثم ينفي اشتراكه مع العلم في وجوب التحقق، لأن التحقق هو معيار الصفة العلمية. فكان نفي التحقق علة التفريق بين الإسلام وبين العلم. إذ كيف يُدّعى حديث الإسلام عن العلم، والعلم تحقيق والدين لا تحقيق فيه بزعم الزاعمين؟! .. لأنه إن كان محققاً، كان علماً لا محالة .. فنفي التحقيق غرضه الحقيقي هو نفي العلمية!!!
وإن ظن المتكلم أنه يُخيِّل على الغُفْل من المسلمين هذه الحجج بزعم أن دينهم فوق العلم، لانه لا يتطلب تحقق، ومن ثم تفنيد، يهدد بنيته ومصداقيته، فهذا باطل؛ لأن التحقق من الأديان واجب بما فيها الإسلام. والإسلام لا يخشى من الفحص والاختبار، بل يدعو الناس جميعاً جهاراً نهاراً إلى النظر فيه والتحقق منه؛ كما قال تعالى "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)، وكما قال تعالى "قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(القصص:49).
أي أن المتكلم غير مهتم على الحقيقة بتقييم الدين (الإسلام) بقيمته العلمية الصادقة، إلا أنه لا يقبل أن يُشاكل الدين العلم في التحقق، وهو الأمر الذي يهبط بقيمة الإسلام سواءاً بسواء مع غيره من أي دين! .. إذ لا فرق إذاً بين الأديان جميعاً؛ لأنها محض إيمان. .. فإن آذى هذا المعنى المسلمين، فليقل لهم إن دينهم فوق العلم، وأنه أزلي، وأنه حق مطلق ... ومثل هذه الألفاظ المبهجة .. والفارغة في نفس الوقت من أي مصداقية، ما دام أنها أيضاً غير قابلة للتحقق والمعايرة، وتصح على البوذية كما تصح على الإسلام. ... وهكذا يؤذي المتكلم الإسلام من حيث يوهم الناس أنه يعظمه! .. وربما يكون هو نفسه واقع في هذا الوهم العلمي دون أن يدري!!!
ثم يأتي المتكلم بوصف مشروع التفسير العلمي بأنه [محاولات علمياتية بائسة بإحاطة الدين بهالة العلم التي هو في غنى عنها، وأن أصحابها يهبطون بالدين إلى مستوى الفرضية ويرفعون عن أسسه طابع الحقيقة المطلقة وطابع الأزلية وهما مفهومان لا يمتان إلى العلم بصلة.]
نقول أن هذا التصور غير صحيح. فأصحاب التفسير العلمي يبدأون بما يبدأ به كل مؤمن حقاً، بأن القرآن حق بكل معنى الحقيقة، وحقيقته واقعية لا خيالية، حسية لا سحرية، ويفيد العلم المفيد في كل ما يخبر به، فالحقائق المطلقة وأزليتها – في نغمة المتكلم أعلى- كلمات تعمل على رهبة السامع والقارئ، وغرضها التمييز والفصل بين القرآن من جهة وبين مقولات العلم، التي هي – بحسب المتكلم- نسبية ومحلية في الزمان والمكان من جهة أخرى مباينة.
والمقارنة الصحيحة – عند العقلاء- ليست بين نصوص القرآن ونصوص العلم، ولكن بين فهم الإنسان لنصوص القرآن، وفهمه للظواهر الكونية، وفي نصوص بشرية علمية معيارية لكلا الطرفين. فالعلاقة إذاً قائمة بين نسبي ونسبي، وليست بين مطلق ونسبي. وتظل العلاقة في الترجيح بين المقولات دائرة بما يرسخ الراجح من الفهم، ويستبعد المرجوح منه في النهاية، وفقط عند هذه النهاية لكل مسألة على انفراد – على نحوٍ منطقي - يمكن الوصول إلى ما فيها من إعجاز علمي يتكشف بنفسه. وعلى ذلك يُعد منطلق التفريق بين القرآن والعلم – عند المتكلم أعلى- تفريق جائر، قد زل به تقديره، ويبقى التفسير والإعجاز العلمي صحيح، وقد زاغ عن حقيقته المتكلم.
يقول: 
"ذكرت في كتابي العلم والمجتمع (بالفرنسية عام 2000) بموقف ساخر لابن خلدون في حديثه عن أنصار ما يعرف باسم الطب النبوي، وأشرت إلى "الفرق الجوهري" بين العلم والدين، بين موضوعات نظرية علمية ما، وأركان الدين. فالمبادئ كلها أو بعضها (يقصد في العلم) تُنقض وتُعارض، وتبنى نظرية جديدة تفسر الواقع على نحو أفضل من النظرية السابقة. ويعترف المجتمع بالجميل لمن قام بذلك ويعبر عن تقديره له بمختلف الأشكال. ولكنه يستحيل معارضة ركن من أركان الدين من غير الخروج عنه والتعرض إلى الاتهام بالكفر."
نقول: لا يخفى على القارئ الحصيف ما في هذه العبارة من تلبيس، فالقول بأن التفسير العلمي يتناول أركان الدين خلط في المعاني، ويشبه هذا الوصف ما رأيناه من عباس محمود العقاد عندما تناول الحديث عن التفسير العلمي ووصف القرآن بأنه كتاب العقيدة. هذا رغم أن الآيات الكونية ليست من آيات العقيدة، ولا هي من أركان الدين، بل من آيات تصور الكون والمخلوقات. وهذه الآيات لا تُودي بصاحبها إلى التهلكة إن جانب الصواب فيها معذوراً، بخلاف آيات العقيدة وأركان الدين، والتي تتناول فقط ما يجب أن يعلمه المسلم ضرورة من دين الله.
ولكشف المزيد من خلط المعاني نورد العبارة الآتية: [يجب تنمية حماس الشباب وفتوته وحركته الفاعلة لمستقبل واعد في شعب ما، ثم نقول أن الحكمة المكنونة – في مأثورات - شيوخ هذا الشعب، ركن ركين وعماد ثبات قيم هذا الشعب. ثم يأتي من يقول: إن هذا الحماس الشبابي ينال من الحكمة المأثورة، ويفند أركانه، وعليه يجب تعطيل هذه الحركة الشبابية، وتقويضها، بل ومحقها] .. وكذلك يقول القائل أعلى ما معناه: [التفسير العلمي لآيات القرآن يعبر عن فتوة القرآن وبقائه الواعد للناس ينافح عن نفسه بعميق المعاني التي لم يكن يعلمها الناس. وفي القرآن مُحكمات تُعبِّر عن الحكمة المأثورة في ما هو شهادة أو غيب. ثم يقول قائل: التفسير العلمي – بحركته المتقلبة المتحمسة- ينال من أركان الدين المتمثلة في حكمته المأثورة.] .. ومثلما أن المستهدف إعدام حركة الشباب في الأمة يقضي على مستقبلها، فكذلك من يستهدف القضاء على التفسير العلمي في القرآن، يقضي على حيوية هذا الدين، وحداثته الباقية، وفيض ينبوعه الدائم، من حيث يظن أنه يحفظ على الدين أركانه، .. ومن حيث يظن أنه (في مثال الشباب وأمته) يحفظ على الشعب حكمته.
أما عن ابن خلدون وما قيل حول كلام له ساخر في التفسير العلمي (في صورة الطب النبوي)، فنسترجع ما قاله ابن خلدون، قال[3]: [الطب المنقول في الشرعيات .. من الوحي .. إنما هو أمرٌ كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل فإنه إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل وما وقع فقال: "أنتم أعلم بأمور ديناكم". فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع. فليس هنالك ما يدل عليه. اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع وليس ذلك في الطب المزاجي (يقصد نظرية الأمزجة المشهورة في زمنه في طبائع العلاجات) وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل. والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه.]
وإذا كان هذا الكلام لابن خلدون هو الذي اعتمده محمد البغدادي ليقرر به أن ابن خلدون قد سخر ممن يقول بأن في القرآن أو السنة أي دلالة على العلوم التي يكتشف البشر شيء من أسرارها، فكان عليه أن يورد كلاماً آخر لابن خلدون أيضاً، قال فيه[4]: [واعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية كما قال في الحديث الجامع للطب وهو قوله: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأصل كل داء البردة". فأما قوله المعدة رأس الدواء، فالحمية: الجوع، وهو الاحتماء من الطعام. والمعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية. وأما قوله: "أصل كل داء البردة"، فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة قبل أن يتم هضم الأول.]
وعلينا إذاً أن نقرن بين مراد ابن خلدون في عبارته الأولى (التي وصفت بالساخرة من التفسير العلمي) والثانية التي هي إعمال عملي منه للتفسير العلمي. ويبدو لي أن هذا الاقتران بين العبارتين له مغزى عميق، خلاصته، أن ابن خلدون حين انتقد ونهي، كان نهيه عن الركون إلى الدين (القرآن والسنة) في استخلاص العلوم دون ممارسة أسباب الخبرة العملية التي تأتي العلوم ثمرة لها، وحين علل وفعَّل، فقد فعَّل الاهتداء بهدايات الدين (قرآن وسنة) باعتبار آياته علامات على الطريق يعلم بها المهتدي صحيح طريقه من ضاله، ويعلم به المرتاب صدق القرآن من كذب غيره من الأديان التي نالها التحريف كثيراً أو قليلا.
وإذا تذكرنا أن جوامع الكلم لا تُعلم تفصيلاتها إلا بإسقاطها على مشاهد الواقع المجرّب، كذلك آيات القرآن العلمية، لا يُدرك مرادها إلا بمعاركة الواقع واختباره، والسياحة العلمية العملية في جنباته. وهذا هو التفسير العلمي الممدوح. أمّا من لا يعرف معنى الداء والدواء والحمية والبردة، فأنى له يفهم حديث النبي أعلاه!. .. وكذلك من كان لا يعلم ما النازعات، وما الذاريات، وما العاديات الموريات الضابحات، وما مستقر الشمس ... إلخ .. ولم يعاين مشاهدها ودلائلها .. فأنَّى له يفهم الآيات الكريمات المنزلات، فيما أخبر الله تعالى عنها وأقسم بها؟!. وأقصى ما عنده أن يقرنها بمعاني قريبة منه، ظاهرة له، سواء شابهت الحق أو لم تشابهه، صدقت عليه أو لم تصدقه. فإن حفظت لنا أسفار التفاسير الكثير من هذا النوع، أما ينبغي لنا أن نُمحِّصها بجديد المعارف الـمُدقَّقة، ورصين البراهين المحققة؟! .. فمن يقل: لا، فإنما يقطع على الناس سبيل العلم بمعاني كتاب ربهم، ويقترف إثماً من حيث يظن أنه يفعل الحسنى!!
ثم أن العلاقة بين (علوم البشر المتبدلة – بحسب ما ينتقص منها محمد البغدادي – ومعاني آيات القرآن)، ليست بعيدة عن العلاقة بين (النظريات العلمية في مقابل التجربة/الرصد) وذلك فيما أورده محمد البغدادي نفسه من عبارة كارل بوبر، .. قال بوبر[5]: [ونحن إذ نقول إن النظرية وحدها وليست التجربة، إن الفكرة وحدها وليس الرصد، هي التي تدل على التطور العلمي وتفتح له الطريق نحو معارف جديدة، فإننا نقول أيضاً أن التجربة تحفظنا من السير على طريق لا تثمر شيئا، وتساعدنا على ترك الخطوط غير السالكة، وتشجعنا على أن نضع الكشف عن كل ما هو جديد نصب أعيننا.]
أي أن نظرية بلا تجربة ورصد، ضرب في عماية، وتجربة ورصد بلا نظرية، معانى غير متصورة. وكذلك يكون التنظير العلمي بلا وحي مرشد من الله، ضرب في عماية (كما هي العلوم الغربية التائهة الضائعة)، وآيات من القرآن بلا تنظير، معاني غير متصورة وآيات مُعطلّة!!!
وإذا كانت النتيجة السابقة في الفهم استخرجناها مما تضمنه كلام ابن خلدون المعارض والمؤيد في آنٍ واحد للتفسير العلمي، باستخدام قاعدة انفكاك العلة، إلا أننا لا نرى حرجاً في معارضة كلام ابن خلدون في مسألة التبرك الإيماني، حين قال: [لا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع. فليس هنالك ما يدل عليه. اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع وليس ذلك في الطب المزاجي، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل.]
وذلك لأن الله تعالى قال (في مسألة العسل): "فِيه شِفَاءٌ للنَّاس"، ولو كانت المسألة محض تبرك، لما عم بها الناس، ولخصَّ بها المؤمنين، بل المتقين!
ويستكمل محمد البغدادي كلامه ويقول: 
"ترى ماذا سيقول ابن خلدون إلى الذين يحاولون اليوم أن يجدوا في الإسلام منشأ كل النظريات الفيزيائية والرياضية مهما بلغ التعارض بين هذه النظريات؟ - هل يعون أن محاولاتهم هذه لا تفيد العلم كما لا تخدم في أي حال من الأحوال الدين الذي يدعون أنهم يريدون الدفاع عنه؟"
نقول: القول بأن في الإسلام منشأ كل النظريات الفيزيائية والرياضية غير صحيح. والصحيح أن في القرآن نصوصاً تهدي الباحثين إلى الحق، وتتحدى رؤساء العلم من الناس في أكبر ما يبرعون فيه، وتحتوي آيات القرآن علامات على طريق الحق بنور العلم والفهم، ومن ذلك أن القرآن إذا تكلَّم عن ظواهر كونية فهو يقول فيها الحق، سواء وافق نظريات البشر، أو فارقها. وإن خالفها بيقين أو رجحان، فهي باطلة – وأيضاً – بيقين أو رجحان.
فالمسألة ليست اتباع القرآن وسوقه ليوافق العلم البشري! ,, وكيف يكون ذلك شأن القرآن وقد نهى البشر في آياته عن اتباع غيرهم على غير بصيرة؟! أينهي البشر عن فعل ثم ينسبه إليه الغافلون؟! ما لكم كيف تحكمون؟!– ومن ظن ذلك ففهمه خاطئ، أو عابث، أو مضلل.
ولكن القرآن يتحدث أيضاً عما يتحدث عنه العلم، فكلامه إذاً أهدى في العلم بهذه المعلومات من دون شك. وإذا تآلف علمٌ صادق من منطوق كلام الله تعالى ومنطوق صنعته سبحانه، الذي هو العلوم البشرية الصياغة إن صدقت في مدلولاتها، فلا بد أن يفيد ذلك أهل الدين فيزيدهم إيماناً، أي دراية بصدق الوحي ودلالة الوجود والخلق على الخالق، كما يكون الدين بذلك أكبر حجة على المتشككين والجاحدين، وأهدى للمنقبين عن الحق في الوجود، وفهم الآيات المنزَّلات.
يستكمل محمد البغدادي ويقول: 
"وقلت في هذا الكتاب أيضاً – يقصد الكتاب الذي ذكره أعلى، بعنوان: العلم والمجتمع (بالفرنسية عام 2000) - متحدثاً عن دور الجامعة، ما يلي: "ويبدوا لي أن العرض الذي قدمناه عن تطور العلوم الطبيعية في الفصل الأول يُعلِّمنا أمرين على الأقل؛ أولهما أننا لا نصل إلى أي شيء على نحو نهائي وقطعي، وأنه لا وجود لحقيقة مطلقة وأن الفكر الميكانياتي المدعي بتنبؤ مستقبل الكون قد زال من دون رجعة، وعلى زملائنا في العلوم الإنسانية التأمل بإمعان أكبر في هذا الواقع والتواضع في نقاشهم والتخلي عن الحجج القطعية."
نقول: هب جدلاً أن العلم قد نفى القطعيات المطلقة، فإن فعل فلن يستطيع أن يقطع بالعبثية المطلقة (لأن نفيه إنما هو نفي لمبدأ القطعية، سواء في الإثبات أو في النفي)؛ فلا بد إذاً أن تكون أحكامه بين هذا وذاك. وذلك هو الترجيح بين الظنيات. أي أن تؤول المسائل إلى راجح وأقل رجحان ومرجوح، وهادي وأقل هدى وضال. وهذا هو حكم الله في التفاضل بين ما يعرض للإنسان، فيقول تعالى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"(الإسراء: 8). فما من شأن يعرض للإنسان، إلا ويكون حكم الله فيه، أمراً كان أو تفسيراً (أي معنىً) أهدى - أي أقرب - إلى الحق الذي يشكك صاحبنا بطلاقته، وترجع المفاضلة - في اسماء التفضيل- لقدرات الـمُفسر المحدودة دوماً في استخلاص المعاني، وليس لطلاقة النصوص في إصابة الحق، وهذا هو معنى قول الله تعالى "وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا"(الفرقان:33)، فالمعنى في ذات النص "حقٌّ دامغ"، وفي أفهام العلماء الراسخين "أحسن تفسيراً" مما عداه. فأي حرج إذاً في المفاضلة بين فهم البشر لكلام الله تعالى في شأن خلقه سبحانه – وهو العليم بما خلق – وفهم البشر لما خلق الله؟! .. أوليس في هذا دليل – إن تم تحري الدقة العلمية – على جواز مقاربة فهمنا لكلام الله تعالى لدلالات خلقه المكنونة في ذات الخلق، والمكتشفة بالبحث والاجتهاد؟! ... أللهم إلا عند من هو بعيد عن فهم كلام الله تعالى (القرآن) أو فهم دلالات خلقه سبحانه (الظواهر الطبيعية والأحوال الواقعية)، أو كلاهما، ثم يلقي على الناس انطباعاته المستنكِرة الموهومة، الخالية من أي تحقيق، والتي إن فعل، ينطبق عليه قول من قال (الإنسان عدو ما يجهل)!!!
والخلاصة: أننا مطالبون بالأرجح، ولسنا مطالبين باليقين، وذلك كما قال r، حين سُئل: من أعلم الناس، قال: [أعلم الناس أعلمهم بالحق إذا اختلف الناس][6] – وفي رواية [.. أبصرهم ..][7].

 المؤلف 


[1] مترجم كتاب "منطق البحث العلمي" لكارل بوبر.
Karl Raimund Popper (1902-1994); The Logic of Scientific Discovery.
أستاذ الفيزياء والرياضيات في جامعات دمشق والرباط وديجون بفرنسا. مؤسس ومدير مختبر الفيزياء النظرية في الرباط (1972-1998)
http://www.aot.org.lb/Home/publication_popup.php?ID=49&h=1&MediaID=1
[2] مقدمة المترجم – محمد البغدادي - لكتاب "منطق البحث العلمي"، كارل بوبر، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، 2006، ص 29.
[3] ابن خلدون، المقدمة، ص 493-494. (نسخة إلكترونية)
[4] ابن خلدون، المقدمة، ص 415.
[5] كارل بوبر، منطق الكشف العلمي، ص 288.
[6] شعب الإيمان للبيهقي، المكتبة الشاملة.
[7] جامع بيان العلم وفضله للقرطبي،