الجمعة، 29 أغسطس 2014

الفصل (هـ6) – احميدة النيفر - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (هـ6) احميدة النيفر

بقلم: عزالدين كزابر
الأستاذ الدكتور احميدة النيفر
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الدكتور احميدة النيفر[2]،[1]
"لا مراء أن صاحب الجواهر ( يقصد الشيخ طنطاوي جوهري ) – وهو يؤكد صراحةً على ألاّ تناقض بين العلم الحديث والنص القرآني، وعلى ألاّ سبيل للمسلمين للرقي دون الأخذ بناصية الاكتشافات الحديثة- (أنه) كان يريد أن يقطع في الوقت نفسه مع المنظور التقليدي الذي ركّز على أن الإعجاز القرآني هو بالأساس بلاغي وتشريعي. لذلك فهو يقول: "يا أمة الإسلام: آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات فما بالكم بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها... هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام... ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم دراستها أفضل من دراسة علم الفرائض...".
تفيد العبارة السابقة إلى توقع صاحبها – احميدة النيفر - أن أصحاب الإعجاز العلمي يفردونه في هذا العصر - عن غيره من إعجاز بلاغي أو تشريعي .. - بمزية الإعجاز، وإلا لما استشهد بأن عبارة طنطاوي جوهري تقطع – أي لا تتفق - مع المنظور التقليدي القائل بأن الإعجاز القرآني هو بالأساس بلاغي وتشريعي. .. ولنا هنا ثلاث ملاحظات: الأولى: أن صاحب الجواهر في مقتبس كلامه لم يشر إلى ذلك! بل أكد أن فرعاً من الرياضيات نتج من دراسة آيات الفرائض - ويقصد علم الجبر - لأنه أشار إليه لاحقاً عندما ذكر المواريث خصيصاً، - وقد رأينا في حواراتنا السابقة أن الناتج من دراسة العبادات كان جملة من علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا الفلكية، وليس فرعاً واحداً من الرياضيات! كما أن كلام طنطاوي جوهري – الذي اقتبسه النيفر- ليس به أي مقارنة مع إعجاز بلاغي، أو تشريعي! ... الملاحظة الثانية: أننا نعلم يقيناً أنه ما من أحد من أهل الإعجاز العلمي أو أسلمة العلوم أو التفسير العلمي، مُعتبَر الكلام، إلا ويُقِر بالإعجاز البلاغي أو التشريعي! ولا ينفيه إذا ورد ذكره مع الإعجاز العلمي! .. أما الملاحظة الثالثة والأهم، فهي أن الشائع بالفعل في الإعجاز القرآني أنه الإعجاز البلاغي والبياني، ولكن لم يحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي أن كان هناك إجماع على انحصار الإعجاز القرآني في ذلك دون غيره، حتى وإن قدمه لهذه المنزلة العليا والمتفردة كوكبة من العلماء على مدار التاريخ الإسلامي. .. ومن ثم، يكون القول بأن المنظور التقليدي – أي التراثي – للإعجاز هو الإعجاز البلاغي والتشريعي يوهم وجود إشكالية في طرح أي إعجاز آخر يفارقه، حتى وإن شاركه. والواقع الراهن لا يؤيد هذا الفهم للإعجاز البلاغي/البياني/التشريعي المتفرد، خاصة أن رؤية الإعجاز قد اتسعت في المئة عام الأخيرة لتتعدد الآراء في مواطن الإعجاز، وعدم انحصاره في رؤية دون غيرها من رؤى الإنسان المحدودة والمقيدة بخبرته الشخصية وثقافة عصره، بل إن التنقيب عن معنى الإعجاز عبر التاريخ الإسلامي ليؤكد أنها كانت مسألة شديدة الإشكال[3]، مثلما هي الآن مثار جدال.
يقول[4]
"الذي يبدو اليوم بحاجة إلى مزيد من التأكيد هو أن ما سُمّي تفسيرًا علميًّا يتطلب منا اعتباره ظاهرة عَرَضية، أي أن يعتبر علامة على أزمة أعمق في آلية التفكير الديني ضمن البنية الثقافية العربية. من هذا المنظور فهو لا يختلف -في جوهره- عن التفسير الأيديولوجي للقرآن (قطب – المودودي) فكلاهما يعبر عن تواصل تَعَطّل المنظومة الثقافية في تعاملها مع النص المقدس. وهو التعطّل الذي بدأ مبكرًا وممثلاً في أبي حامد الغزالي حين قال في جواهر القرآن جملته - المنهج: (أو ما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعّب علم الأوّلين والآخرين)[5]. هذا التّعطّل محتاج إلى معالجة علميّة بالمعنى الدّقيق للكلمة.
يقصد المتكلم أن تعطُّل المنظومة الثقافية في تعاملها مع النص المقدس له مؤشرات؛ منها: التفسير العلمي، ومنها أدلجة القرآن فيما عرضه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وأن أبو حامد الغزالي كان رائد هذه العطالة الثقافية!
أما عن الغزالي، في قوله: " القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعّب علم الأوّلين والآخرين"، فنسأل: هل يختلف هذا الكلام كثيراً عن الحديث الذي روته بعض كتب الحديث[6] عن علي ابن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعضه عن القرآن الكريم: ".. لا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ..". فإن صح اتهام النيفر للغزالي بريادته في تعطيل المنظومة الثقافية، فهذا الحديث إذاً أسبق في تعطيلها لو صدقت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طعن بالغ في أصول الرسالة ذاتها. ولأن هذا باطل، فما استند إليه باطل، أي: علة تعطيل المنظومة الثقافية في القول برحابة العطاء القرآني. ومن ثم فالتفسير العلمي لا يعطل حقاً أراد الله تعالى إعلامنا به في كتابه، بل هو آلة متجددة لإخراج الإعلام المعرفي المتواصل للقرآن، حتى وأن أربك هذا الإعلام المكتشف لاحقاً ماء الثقافة الدينية الراكد، فانعقدت له أفهام أصحابها وألسنتهم بين مُنكر ومُتردد ومشوش، وإن نطقوا لم نسمع منهم إلا توبيخ هذا القادم المزعج لهم في سلامهم الموهوم! .. في زمنٍ .. سُنت وأُطلقت فيه رماح وسهام المعرفة – المنكرة لله تعالى وسلطانه المجيد- من كل حدبٍ وصوب.
ثم إذا كانت الأيديولوجية الإسلامية والتفسير العلمي - اللذان يمثلان منظورا الثقافة الإسلامية التراثية والمعاصرة ولو جزئياً – يقومان كمؤشرين على تعطل المنظومة الثقافية، وهما – كما هو معلوم - إسقاطان للفكر الإسلامي على الواقع الماضي والحاضر على التوالي، فهل بقى من الإسقاطات الفكرية التطبيقية للإسلام شيء؟! – لا .. لم يبق إلا النص القرآني، ومسائل فقه الفرائض. وتكون النتيجة من ثمَّ، قرآن ودين معطلان عن آي رؤية وأي إعمال في الواقع.
أمّا، من جهة ذم الإعجاز العلمي، فكفى به فخراً أن يُذم مع سيد قطب والمودودي، فالذم مع مثل هؤلاء، شهادة بالوفاء. أما البلهاء فيتمنون مدحاً، حتى وإن كان مع الأشقياء، تعساء فرحين به، "واللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"(القصص:76).
وإذا كانت المنظومة الثقافية معطلة من أصحاب التفسير العلمي، بما يتفق مع كلام صاحب المقالة، فأين هي النخب العاقلة التي يمتدح المتكلم أمرها وينتسب إلى فكرها؟ – أليس من المفترض أن تعلم هذه النخب أين نجد مفاتيح الحضارة المأمولة، التي فقدنا مقاليدها، وخارطتها وأسباب نجاحها، والآلية المثلى للتفكير الديني الذي يحققها؟ أم أن هذا ليس في متناول يدها ولا تحت ناظريها؟ وإن كانت كذلك وتبذل جهدها، فأين هي النماذج الفعالة في الحضارة – بعد أن بخَّست بالغزالي وقطب والمودودي وأمثالهم- التي تستطيع أن تقدمها هذه النخبة لتقتدي بها الأمة؟!
ثم، أليس الواقع الإنساني المعاصر يجري صياغته في كلياته وجزئياته بما يسمى العلم المعاصر، وهو هو نفس الواقع الذي أنزل الله تعالى القرآن ليقوِّم اعوجاجه، ويهديه الطريق القويم، أما ينبغي أن يلتقي القرآن والعلم إذاً ماداما أنهما فاعلان في واقع واحد؟ - وما هو القالب الفكري لهذا الالتقاء الذي لا بد أن يجمع القرآن والعلم والواقع؟ - إن كان مُسَمَّى "التفسير العلمي" بغيض على بعض النفوس، فليطرحوا له اسماً آخر، ولا مشاحة في الأسماء!
يقول الدكتور النيفر[7]
"في الخطاب القائم على أن النّصّ القرآني هو النّصّ المعجز للإنسان تكون العلاقة بين النّصّ والإنسان علاقة مشدودة إلى طرف واحد، هو طرف النّصّ وقدسيّته. بينما كانت العلاقة في فترات الإبداع الحضاري جدليّة بين الطّرفين، أي أنّها علاقة تدفع المؤمن بقدسيّة القرآن إلى أن يكون فاعلاً في واقعه بحسب درجة وعيه المنفتح. بذلك تحوّل الإعجاز في القرون الأولى إلى نسق فكريّ دافع للتّميّز والتّفوّق المعرفيّين."
إن اسم "الإعجاز العلمي" محض اسم عَلَمْ على مفهوم نامي ممتد، وغير مقيد بقيده اللفظي والحرفي. ومن أراد المعنى من الاسم - في الوقت الذي وُلد فيه المعنى قبل الاسم - كان كمن طلب روح الزهر من لونه أو رسمه، دون نبته وتورده! .. كما وأن الإعجاز العلمي ثمرة عالية، لا مقطوفة ولا دانية، وساقها وفروعها باهية، ... وأوراقها فاشية ... في جمال العيون .. باهية ... وما هذه الجنان إلا معاني العلم في القرآن، ... فإذا ارتادها الزوار، .. وجال في أرجائها النظار، .. ونقب في طرقاتها الزراع والعمال، .. نبتت لهم في أنحائها عجائب الأخبار، .. وهناك هناك فوق الأعناق، خلف الثنايا والمفاوز وفي أعالي الجبال، يتنسمون أشجار المعرفة الباسقة .. ويجدون ثمار الإعجاز العلمي، .. فلا يراه ويعاينه إلا من وصل، ولم يصل إلا من اجتهد، وصبر، وما هي مكافأة بلا عمل، ولا وصول بلا سفر.
وكيف يكون إعجاز القرون الأولى في سماته البلاغية والبيانية، وهو يدور في رحى اللغة، ونظريات النظم، وأدبيات دواوين العرب، أشد دفعاً للمؤمن لاعتراك المعرفة، من إعجاز العقود المتأخرة، الذي يمخر عباب واقعٍ، تتقلب فيه المعرفة ألوانا، ويشق خضم بحرٍ، تتلاطم في فيضه البيانات؟! يتجول دائماً أبداً في بساتين من زهور المعاني، يتحقق ويدقق، ويتفهم ويستفهم، ويهمس ويستهمس، وينطق ويستنطق!!! ... فالتفسير الحقيق مسلكه دقيق، وفي مصارفه كثير من الأشواك والشراك، يستوجب الفهم والعلم والهمة، والمغامرة والمخاطرة وطلب القمة، ولا تُسدى هذه الخصال لمن كان همه التثبيط، والغمز واللمز، والذم لمن أراد من عباد الله للحق رفعة ونصرا. وإذا كان من أصحاب الإعجاز من يتخذ مكتباً في أبراج العاج، فحتماً لن تصعد إليه المعرفة، لأنها تُؤتى ولا تَأتي، وهذا الكسل أهلٌ بمن عليه عاب. أما كتاب الله الكريم، وحبل الله المتين، فطرفه بيد الله، سبحانه في عليائه، ونحن بطرفه القريب بأيماننا قابضين، فكيف نجاذبه ونحن من طين، وأبلغ ما نطمح إليه أن يسري في أرواحنا منه نورٌ ويقين، ساعين بأيدينا الأخرى عاملين منقبين، عما يتكلم به الله رب العالمين، أو ينطق من خلقه ناطق باسمه الحكيم، نستمع وننظر علنا نكون مع الفاهمين الموصولين.
يقول: 
"في التّوجّه .. الذي يؤكّد على العلاقة المشدودة إلى طرف النّصّ لا يبدو هناك فرق نوعيّ بين أصناف المتلقّين للنّص. الاختلاف الموجود بين المؤمن والجاحد والشّاك لن يخرج أيّ واحد من خانة العجز الجامع لهم أمام النّصّ القرآني إلى خانة أخرى: خانة التّفاعل مع قدسيّة النّصّ. إنّه انزلاق بمفهوم الإعجاز إلى مفهوم مغاير هو التّعجيز، فالحديث عن أسرار النّصّ وجواهره وعجائبه هو حديث عن ثراء النّصّ وعمقه، ولكنّه في الوقت نفسه صمت عن قارئه وطبيعة وعيه والمقتضيات الثّقافيّة والاجتماعيّة المشكّلة له. هذا التّصوّر هو الذي صاغ العبارة المشهورة [مثل هذا الكتاب لو احتاج بيان مقاصده إلى شيء آخر لم تتمّ الحجّة به] فكأنّ قدسيّة النّصّ لا تتحقّق إلاّ بغياب طاقات الإنسان وفاعليّة واقعه الاجتماعي والفكري في ظهور دلالات النّصّ وأبعاده."
ما علاقة الجاحد والشاك بقدسية النص، بل بالنص الذي هما عنه معرضان؟ كيف يؤدي بهم إلى العجز وهم متحررون منه – أو مجردون من ستر الحياء - بطبيعتهم المتمردة على قانون الحياة؟ أليس القرآن هو قانون حياة النفس الإنسانية، كما قال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"(الأنفال:24). إن انفلات هؤلاء مع اتهامهم بالوقوع تحت طائلة العجز، لَدَليل على تخبط صاحب الكلام في حشد الكلام! ولو صدق كلامه لظهر من تحرر هؤلاء تميزاً على المؤمنين العاجزين، لكن عموم العجز الحضاري دليل على أن السبب مشترك، ولكن المتحررين متفلتون من حكم القرآن، فدل ذلك على براءة القرآن من تهمة عجزهم. أما عن مغالطة التعجيز فنشرحه بالمثال:
ما الذي يقوله أحدنا، إن ذم له الذام فعل منهج الطبيعيات والفلكيات والرياضيات، يقول إن أصحابه مشدودون إلى جامدات من المخلوقات، أو بروق من المجرات، أو رقوم من المعدودات، يحكون عن أسرارها، وعويص قوانينها، واحتباك تفاصيلها، والتفاف سلوكها! كلما رسموا لها المسارات، وظنوا أنهم بذلك فكوا الإلغازات، فاجأتهم بشذوذ عن المألوفات. فيثورون في المؤتمرات، ويفُضُّون الرسومات، ويهدمون المعادلات، ويكسرون الجمادات، ويعودون إلى مربع الابتداء، وهكذا دواليك في جولات وجولات. أعجزتهم المادة الميتة عن فهم حياتها، وحيرتهم زينة النجوم والمجرات من فرط جيشانها واعتراكها، وأصابتهم العدديات بدوار المتسلسلات واللانهايات. أوصلتهم إلى التعجيز، فلا يبدأون حتى يشتبكون، ولا يكتبون أوراقاً حتى يمزقون، وتزداد حيرتهم وتتغير عقيدتهم. أوصلتهم علومهم إلى هذيان من الفهم والقول، حتى [تخرض زعيمٌ منهم وقال: من أمر بخلق هذا الجسيم؟ - وهذى أخر فسخر فقال: عيوب تصميم هذه الجمادات عيوب في صانعها!][8].... إلى آخر مشاكل علوم الطبيعيات!
هل نستدل من الفقرة السابقة على أن منهج العلوم الطبيعية – وهو المثل الأعلى في العلوم المعاصرة بقدها وقديدها – قد أوصل أصحابه إلى العجز والتعجيز؟! - أو هل وصل مبتغاهم إلى درجة القدسية حتى تعالى على الفهم، وأصبح سراً أعظم، فهذى أولياءه كالمتصوفة على أبواب معبودهم؟! أو بالتعبير الذي أوردناه لصاحبه أعلى: هل أصبح [الحديث عن أسرار الكون وجواهره وعجائبه هو حديث عن ثراء قوانينه وعمقها، ولكنّه في الوقت نفسه صمت عن قارئه وطبيعة وعيه والمقتضيات الثّقافيّة والاجتماعيّة المشكّلة له] حتى أصبح وجود قارئ النص الكوني كعدمه، يقول اليوم عنه ما ينفيه غدا، كفلاسفة العصور الوسطى، وأصبحت نظرياتهم حججٌ تهافتُ كالزجاج، تخالها حقا وكل كاسر مكسور؟!
نعلم أن هذه الأسئلة التي نطرحها وما فيها من استغلاقات مفهومية عن سؤال الطبيعيات، ليست إلا تحليلات لاغية، لا تقدم ولا تؤخر، ولا تصف ولا تهدي، ولا تقيم على العقل حُجَجَاً، ولا تنزع عن البصر حُجُبَا، غير أنها ليست بعيدة عن بعض الحقائق، إلا أننا أتينا بها على هذه الصورة المشكلة على العقل بقصد التلبيس، فيظن مساكين المثقفين أن علوم الطبيعيات باطل في باطل، وهي ليست كذلك على العموم، وغرضنا الصريح من ذلك هو نمذجة ما قدمه صاحب العبارة التي نحاورها من تلبيس، فكان تلبيساً بتلبيس، وتلبيسه أبطل، والبادي أظلم.
والنتيجة: أن قدسية النص قائمة، ولكنها ليست على العقول التي أنزلت لتهديها متعالية، وفيها يقول الله تعالى "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"(القمر:17-22-32-40)، وكما أن الطبيعة وقوانينها، والتي هي من خلق الله تعالى مهما اقتربنا منها، تظل بعيدة، فكذلك كتاب الله تعالى. فإذا كان هذا حال صنعة الله وكلامه، فكيف بذاته العلية؟ - جل في علاه، وتقدَّست أسماؤه.
 يقول: 
"إنّ انفصال النّصّ عن الذّات والواقع هو المسوّغ لظهور تفسير علمي، وآخر "إيديولوجي"، وثالث "إشاري"، هذه كلّها مداخل قد تختلف في الأشكال والمصطلحات لكنّها تتّفق في آليّة التّفكير المنطلقة من أن الإعجاز الكامل لا يتأتّى إلاّ بتأصّل عجز الإنسان معرفيّا ووجوديّا!."
كيف يمكن الزعم بأن المنظورات المتعدة في قراءة كتاب الله تعالى – لاختلاف الموضوع وإسقاطات الواقع – تتفق على طبيعة واحدة في آلية تفكير أصحاب المنظورات، وأن هذه الآلية مردها إلى تأصيل عجز الإنسان معرفياً ووجودياً بسبب توحدهم في الإقرار بالإعجاز الكامل للقرآن؟! – ما الذي يغضب صاحب هذا الكلام من كون القرآن معجزاً في جميع ما يتعلق به؟! – ولماذا يتهم الإعجاز القرآني– بغض النظر عن نوعه- بأنه سبب العجز الإنساني للمؤمنين بالقرآن؟! – إن صح كلامه فلا بد أن إعجاز الكون عن تفهم نهائي له من جهة أصحاب الطبيعيات، لا بد أن يكون سبباً أيضاً في عجز الإنسان المتعلم علوم العصر الحديث معرفياً ووجودياً! ولكن العبارة الأخيرة فاسدة، وكذلك عبارة النيفر السابقة!
والحقيقة هي أن إعجاز الفهم الكامل والمحيط لكل من القرآن والكون عن مدارك البشر، لدليلٌ على أن مصدرهما متعال، لأن من تواضعت قدرته عن الإحاطة بصنعةٍ ما، كانت أشد تواضعاً عن الإحاطة بصانعها، وكانت من ثمَّ أشد تقديساً له ممن توهم في نفسه تمام العلم. وهذا ثمرة الاجتهاد في التفسير العلمي الجامع بين آيات القرآن وآيات الكون. أما الـمُعرض، الظان بكمال علمه بالقرآن، وعدم حاجته للعلم بشيء من آيات الكون ... فكم هو بعيد عن تقديس رب الكون ومنزل القرآن!!! ... لأن التقديس ليس بالقول اللفظي المتكرر الخاوي من النظر العملي... بل ببث بذور العلم في النفس، بصنائع الخالق القدير وكلامه الحكيم،.. ثم رَيِّها على الدوام، بدوام التدبر والاعتبار، والنظر والفهم والسير في مناكب المعرفة والإبحار. أما القاعدون ... فقد تركهم الركب وسار .. وهم فرحون غافلون منتشون، يظنن أنهم – دون من سواهم – العابدون الممدوحون!!!
يقول: 
"حين نتناول التّراث التّفسيري نجد أن هذا التّصوّر للنّصّ وما ينجرّ عنه من انسحاب للحياة من الواقع الاجتماعيّ والثّقافي كان ممثّلاً في الأسس المنهجيّة للإمام أبي حامد الغزالي في كتابيه "الإحياء" و"جواهر القرآن". فالغزالي – رغم ما قرّره من قواعد سلوكيّة ودلاليّة موصولة بالنّصّ تهدف إلى إحياء الإيمان والعلوم– فإنّ المنهج الذي انخرط فيه وزاده تعميقًا كان أبعد ما يكون عن المنهج الإحيائي. ولنستمع إليه يقول: "القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كلّ كلمة علم، ثمّ يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكلّ كلمة ظاهر وباطن وحدّ وطالع[9]... كلّ هذه العلوم ما عددنا وما لم نعدد جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى.. ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربّما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها...". وقد أدى هذا التصور بالغزالي إلى تقسيم العلوم القرآنية إلى علوم صدف وقشر وعلم اللباب. هذا الأخير هو الذي تتشعب منه قصص الأولين وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم الطب والنجوم وهيئة العلم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه..."
نقول: إذا كان الله تعالى قد خلق من أجناس الأحياء من حيوان ونبات - على قررته التصانيف حتى الآن– حوالي 30 مليون جنس، ولم يستطع الإنسان بجلالة قدر مجامعه، ومجلدات التصنيفات الأحيائية على مدى 3 قرون حتى الآن، إلاَّ تسمية حوالي مليون ونصف المليون جنس فقط. ولو أن لكل صنف منها كتاب علم يشرح الجنس ونشأته وشجرة أقاربه من الأجناس وحياته ومآله وتاريخه وطعامه وشرابه، وو ... إلخ، فكم علم من علوم هذه الأحياء يمكن تعديدها؟! – لا بد وأن تكون 30 مليون علم، بمعنى تخصص علمي.
وإذا كانت هذه الملايين من الأجناس قد خُلقت من الأرض ذات العناصر الكيميائية المستقرة التي لا تزيد عن مئة عنصر فقط! فما البال بـ ما يزيد عن ستة آلاف آية في القرآن، بين محكم ومتشابه، أو لنقل – كما هو الحال في الآحياء السابق ذكرها - بين ما تم تسميته وما لم يُسمَّى. لا بد وأن عدد المعارف/العلوم/التخصصات التي يحتويها القرآن بالقوة  -أي التي اكتشفها الإنسان والتي لم يكتشفها – عدد هائل يعجز العقل البشري المتواضع أن يحصيها.
فإذا أحصاهها الغزالي بتعديد الكلمات وتقليبات تصنيفاتها المعرفية في عصره، فجاءت على النحو الذي قرأناه أعلى، ... فأي غرابة في ذلك؟! – وهل يختلف ذلك عمّا يصنعه علماء الكونيات الآن من بحث في عظائم الأرقام العلمية[10]، فيقولون مثلاً – ضمن ما يقولون - أن الحد الأعلى للعمليات الحسابية التي تمت في الكون على نحو طبيعي هو (12010) عملية منذ اللحظة التي يسمونها الانفجار العظيم وحتى الآن[11] – أو يقولون أن عدد البروتونات في الكون المنظور – أو عدد الإلكترونات المساوي له – هو 791.5، ويسمون هذا العدد (عدد إدنجتون)، لأنه إدنجتون[12] صرح بالتصريح الغريب الآتي سنة 1939، وقال[13] (بصيغة جازمة):
أعتقد أن عدد البروتونات في الكون – ومثله الإلكترونات - هو :
15 747 724 136 275 002 577 605 653 961 181 555 468 044 717 914 527 116 709 366 231 425 076 185 631 031 296
فكم هو غريب التصريح بهذا الرقم! ومع ذلك فقد كان له أساس ومنطق رجحه صاحبه، وبنى عليه تصوره. وكذلك ما كان من الغزالي، الذي بنى منطقه في عدد علوم القرآن على أنها عدد كلمات القرآن، ثم تباديل الكلمة على أربع مستويات، بما يعني أربع أمثال العدد الذي ذكره، ثم ما قال أن هناك رتبة أخرى من " علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربّما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها". وقد وجدنا في بنية الكون من العلوم الغامضة التي ظهرت حديثاً مثل علم الفوضى، وعلم التناظر، والآوتار الفائقة، فما المانع أن يوجد في القرآن تناظرات خفية يمثل الإعجاز العددي إحدى تجلياته، وإن ما يُروَّج منه الآن يعُد في بداياته، ولم يرق بعد إلى مستوى المصداقية المطلوبة؟! فإذا رأينا ذلك، فأيهما أغرب، ما أتى به الغزالي أم ما جاء به إدنجتون؟! .. أم أن الطعن في جرأة إدنجتون لا تجوز، .. وتجوز في جرأة الغزالي وحدة بصيرته العلمية؟! .. بدلاً من أن يكون مدح الغزالي أولى من مدح من جاءوا بعده بألف عام يقتفون أثر فهمه الراقي .. في وقت كانوا فيه أدنى البشر. .. ثم من الذين يضعون الغزالي في وقت كان أولى بهم أن يرفعوه .. إنهم بعض المسلمين!! .. حقاً إن هذا زمن يوضع فيه العليم الشريف، ويُعلى بمن دونه!!
يقول النيفر: 
"كل العلوم وكل الحقائق – وكذلك المعرفة – أزلية مكنونة في النص، لا صلة لها بالفعل الإنساني، وهذا ما يعلنه الغزالي بوضوح في الإحياء: "العلوم كلها داخلة في أفعال الله - عز وجل– وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته". هنا يتبدّى لنا الغزالي في جانب رئيسي من بنيته الفكرية، فإلى جانب الغزالي فقيهًا ومربيًا يبرز الغزالي متكلمًا أشعريًّا. ومع هذا الجانب الخاص بالغزالي يمكن أن نضع أصابعنا على مدى تجديد ما يسمّى بالتفسير "العلمي" الحديثَ بالنسبة إلى المنهج المعرفي والعقدي الذي يعتمده."
نقول: هل الاعتراض هنا على قوله أن كل العلوم والحقائق أزلية مكنونة في النص، أم قوله أنها داخلة في أفعال الله تعالى؟ - إن كان الأول، فالمسألة إذاً جزء من مسألة خلق القرآن، ونُقرِّب معناها على أن الله تعالى قدر في الأزل ما سينزله من القرآن ويعلم ما سيكون عليه من تفصيل واحتواء معرفي، ومن ثم فهو من الغيب المستقبلي، والله تعالى يقول: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ"(الأنعام: 59).
أما إن كان الاعتراض على دخول فعل العباد في أفعال الله تعالى، فما العيب في ذلك؟! ما الغرابة في أن الله تعالى يستخدمنا في تنفيذ أقداره الحكيمة، وقد خلقنا على النحو الذي يحقق ذلك على الوجه الأتم، وأن لنا مشيئة، وله سبحانه مشيئة. وتستوعب سبحانه مشيئته مشيئتنا، مثلما يستوعب مجرى النهر قطرات المطر الساقطة على سطحه، حتى ولو كان لها مشيئة، فلا تغلب المشيئة التي يجري بها تيار النهر إلى مصبَّه. وفي هذا يقول الله تعالى "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"(الصافات:96). أما إن كان الكاتب يعيب على هذا الفكر في أنه يؤدي إلى الجبر، وأن الإنسان وفعله غير ذي جدوى، فيتعطل ويخلد عن العمل، وأن هذا من ثقافة الإعجاز والتفسير العلمي، المستكين باستطعام العلم في القرآن دون السعي الحقيقي وراءه، فهذا خلاف الصورة الحقيقية، حتى وإن فعلها بعض الذين يمارسون التفسير والإعجاز العلمي! فالسعي وراء فهم الواقع الذي يحكي عنه القرآن حيثما يكون، جزء لا يتجزأ من فهم آيات القرآن، ولا معنى للتفسير العلمي لظواهر دون الوقوف عليها عياناً واستدلالاً.
يقول: 
"إن حديث الشيخ (طنطاوي) جوهري – وهو المعاصر لنا – عن البيولوجيا والجيولوجيا لا ينبغي أن يغيّب عنا بحال من الأحوال خطّ التواصل مع البناء الفكري والعقدي للغزالي والأشعري من قبله. فهو - بوعي أو دون وعي- ينكفئ على مفهوم للنص كما استقرّ منذ القرن الثالث (بعد محنة خلق القرآن). ففي نسيج الثقافة العربية الإسلامية استقرّ أن الكلام الإلهي هو صفة ذاتية قديمة، وليست فعلاً من أفعاله، وينجم عن هذا انحسار خطير لقيمة الإنسان ومعرفته وتجربته؛ إذ لا يستطيع المخلوق أن يعتبر نفسه المستهدف الرئيسي والمخاطب الأول بالكلام القديم. إنه لن يكون قادرا على استيعاب ما لم يخلق له في حدود تجربته المنفتحة. فالسبيل المتاح له هو التقاط بعض أسرار النص وغرائبه وهو مسعى لن يغيّر من طبيعة الإنسان وما يمكن أن تفتحه له تجربته من آفاق. هذا التعامل غير التاريخي مع النص يؤدي إلى قطيعة مع الواقع الاجتماعي الثقافي. إنه يؤسس لمنهج لا تاريخي للمعرفة، إذ يعدّ النص المصدر الوحيد للمعرفة مهملاً تفاعل الإنسان ومعضلاته بقيم النص ومقاصده وبنائه."
كما قلنا، لا قيمة لنص، أي نص من قائله، ما لم يقترن بواقع يحكيه النص، فالقول بأن النص المصدر الوحيد للمعرفة – عند من ينتقدهم المتكلم – خطأ مفهومي، يجب عليه تصحيحه لأنه غير وارد في حيثيات المسألة. فالإحاطة بالواقع والنص جميعاً جملة مفيدة معرفياً، وتُفقد هذه الإفادة إذا انفصل النص عن الواقع، أو انفصل الواقع عن النص.
أما الجدلية التي يثيرها الكاتب في الفقرة السابقة، فهي قوله: "التعامل غير التاريخي مع النص يؤدي إلى قطيعة مع الواقع الاجتماعي الثقافي". ونسأل: إذا كان يقصد من تاريخية النص، تاريخية قدره ومحتواه عند الله سبحانه. فنقول: هل إذا علمنا أن الله تعالى قدر محتوى النص القرآني على النحو الذي هو عليه بين دفتي النص قبل نزول القرآن بخمسين ألف سنة، أو بخمسة عشرة مليار سنة، قُبيل خلق الكون الذي نعلمه، أو منذ أزل أبعد لا نعلمه، هل في ذلك من تأثير في تعاملنا مع النص؟! – الإجابة هي: لا تأثير! – ثم أنها مسألة غيبية، لا يجرؤ عاقل أن يتكلم فيها بتقريرات وإلا دخل في استحقاقات قول الله تعالى " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ... أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"(الأعراف:33).
وإن كان يقصد أن النص يرسم صورة سكونية لا ديناميكية فيها لقارئيه، إن انطبقت على زمن لا تصلح لسواه من الأزمان اللاحقة! فهذا كلام يتعارض وتصريحات النص ذاته؛ إذ أن أدوات التشريع في النص، ومكنوناته المعرفية متجددة العطاء، لأنه نصٌ كريم، فالقياس الفقهي، والمصلحة، وفقه الواقع يهيء التشريع دوماً لاستيعاب عوارض الأحداث، ومستجدات الوقائع، ومتطلبات الفهم، وجديد العلم المدعوم من الواقع.
وإن كان يقصد أن وصف القرآن للكون والإنسان من بزوغ في الوجود، وقفول في الغيب قبل عودة لاحقة، وأنها صورة نمطية رتيبة، مغايرة لتفاؤل وانفعال وآفاق المستقبل الذي قد ينفتح فيخرج من الأرض كما خرج - وقد اختلف مع قراءات قيّمة للنص - ويهاجر الإنسان إلى عوالم أخرى غير الأرض، وما إلى ذلك من الخيال العلمي. فنقول: إن هذه الصورة النمطية لم تكن لعين محتوى النص، بل للقراءات القديمة للنص، وهي القراءات التي يظن المتكلم أنها عين معاني النص، ويظن أنه انغلق عليها، وأن أسواق العلم قد انفضت عن جديد في النص. ولكن هذا الذي يعيبه المتكلم هو عين ما يعارضه ويقفل الباب دونه، ونقصد التفسيرات الجديدة للنص بما أظهرته العلوم الجديدة، فكيف يستنصر بالقديم من التفسير، على عدم قدرة النص على مواكبة الجديد؟! – فالنص إذاً ديناميكي في عطائه المعرفي، ولا سكونية فيه إلا للذين سكنوا عن طلب جديد العطاء. فالإشكال فيهم، وما إشكال في معالجة النص، إلا في إلزام مفاهيمه المنفتحة بأفهامهم المقيدة!
يقول: "
"لا يكون مجديًا إنكار ما يسمى بالتفسير العلمي أو الإيديولوجي أو الإشاري أو ما يشابهها، بل لا بد من تحديد: لماذا ننكر هذا العمل منهجيًّا؟ وما الضوابط الأساسية التي تحكم تعاملنا مع النص المؤسس لثقافتنا العربية الإسلامية؟
المؤكد أن جهود رجال من أمثال محمد عبده وأمين الخولي وآخرين معاصرين، تعدّ أعمالاً ريادية؛ لأنها رغم اختلافاتها فإنها قد وعت - بشكل علمي - حقيقتين كبيرتين تتصلان بكل عمل تقويمي للتراث التفسيري:
 أ- أن المعضلة ليست في هذا التراث، بل في المنهج الذي يعتمده.
 ب- أن تطوير مفهوم الحداثة في البلاد العربية لا يتأتى إلا من الداخل الثقافي الذي لن تتجدد منظومته العقدية والفكرية والنفسية إلا باعتماد الأدوات التحليلية والمنهجية الحديثة."
فالإشكال إذاً في أن نقض التفسيرات المختلفة، ومنها التفسير العلمي، يقع في نقض مناهج هذه التفسيرات، وأن المعضلة المعيبة المأخوذة عليها من المتكلم، تكمن مناطاتها بتمامها في المناهج. ولن يتأتى تحديث هذه المناهج  لتفكيك هذا الإعضال - بحسب كلام المتكلم – من الداخل الثقافي، الذي استفرغ وسعه ولم يفلح في مبتغاه، فوجب إذاً اعتماد أدوات التحليل والمنهجية الحديثة لتجديد المنظومة العقدية والفكرية والنفسية!
ولكن هذه الأدوات التحليلية والمنهجية – كالتي سنراها عند طه حسين، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وسيد القمني ..إلخ، قد استُجلبت من الغرب، ومن سبقهم من طابور المستشرقين، وحملت معها أيديولوجية مضادة، تحمل في بواطنها، وقناعاتها المسبقة، أسطورية النصوص، ومجازية أدبياتها، وتاريخية تأليفية لها. فهي إذاً أدوات تحليلية ذات أغراض غير موضوعية، ولا تقف على الحياد في معرفتها بالنص، وليتها فعلت! بل تقف على جناح العداء والتشكيك المسبق! فأي علمية منهجية تلك التي تدعيها لنفسها وهي تستهدف تخريب النصوص، في وقت تنكر صراحة علمية النصوص. ثم كيف لا تنكرها، في وقت تستأثر بالاستنصار بها ضد النصوص. فلا مناص إلا من إنكارها وإلا فشلت في مسعاها! ... هو إذاً المكر العلمي، أي المتشح بردائه زوراً وبهتاناً ...
إذا كان الأمر كذلك، .. - وهو كذلك من كثرة شواهده كما سنرى عن أركون وأصحابه- .. فلا بد لنا إذاً أن نخلص أدوات التحليل، التي يتكلم عنها احميدة النيفر، من الأفكار الفاسدة في التحليل. أي أننا بحاجة إلى تحليل أدوات التحليل! .. والحكم عليها وعلى مصداقيتها .. لا أن نُقدِّس مزاعمها المشحونة بأغراض أصحابها. .. ومن يدعو إلى اعتمادها حَكَمَاً فيما ينبغي أن نفهم به كلام ربنا جل وعلا .. كما قرأنا أعلى لتوّنا!!
 المؤلف 


[1] أحميدة النيفر هو أحد منظري اليسار الإسلامي أو ما يسمى بالإسلاميين التقدميون. درس في جامع الأزهر بمصر. قصد باريس ونال من جامعة السوربون دكتورا الحلقة، ثم حصل على شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية ليدرس بالجامعة الزيتونية. كتب أحميدة النيفر في السبعينات في مجلة المعرفة الإسلامية، ثم أسندت له عام 1982 رخصة مجلة جديدة اختار لها عنوان مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي 15-21، وقد توقفت هذه المجلة عن الصدور في أواسط عام 1990. له العديد من المؤلفات والمقالات.
[2] " التفسير العلمي وتَعَطّل المنظومة الثقافية الإسلامية"، أحميدة النيفر، 
[3] راجع في ذلك ما كتبه الشيخ محمود شاكر، في كتابه "مداخل إعجاز القرآن".
[4] المرجع السابق.
[5] أبو حامد الغزالي، جواهر القرآن، مقدمة الكتاب.
[6] سنن الترمذي، والدارمي.
[7] المرجع السابق.
[8] أخزاهم الله وأخزى جهلهم الذي تظنه السوقة علما! فالذي تَخَرَّص وتساءل مستنكراً: من أمر بخلق ذلك (يقصد جسيم الميون)؟ Who ordered that ( the creation of Muon particle? هو إيسيدور رابي  Isidor I. Rabiوهو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1944 (http://en.wikipedia.org/wiki/I._I._Rabi). والذي سخر من عيوب هذه الجمادات وزعم أنها عيوب في صانعها، هو ولفجانج باولي Wolfgang Pauli  - الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1945- والقائل على الحقيقة: God is weakly left-handed، في وصفه لظاهرة عدم حفظ التماثلية في التفاعلات النووية الضعيفة المسئولة عن الانحلال الإشعاعي.
(C. P. Enz, No Time to be Brief: A Scientific Biography of Wolfgang Pauli – Oxford: Oxford University Press, 2002- p.519)
[9] يقصدون – أي أهل التصوف – من الظاهر: عالم الكون والفساد التي نعيش فيه، وبالباطن: العالم العقلي، وبالحد: الخلق، وبالمطلع: برزخ البرازخ الذي لا يمكن الوصول إليه.؟؟
[10] The Constants of Nature; From Alpha to Omega - The Numbers that Encode the Deepest Secrets of the Universe. Pantheon Books, John D. Barrow, 2002.
[11] Computational Capacity of the Universe, Seth Lloyd, Phys. Rev. Lett. 88, 237901 (2002).
http://physics.aps.org/story/v9/st27
[13] Eddington (1939), lecture titled "The Philosophy of Physical Science.";
http://home.t01.itscom.net/allais/blackprior/eddington/PhilScience.doc, p.156.


الخميس، 21 أغسطس 2014

الفصل (هـ5) – أبو يعرب المرزوقي - كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (هـ5) أبو يعرب المرزوقي

بقلم: عزالدين كزابر
الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي
عودة إلى فهرس الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
عرضت مادة هذا الفصل على الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي قبل نشرها هنا، فتفضَّل وأجابني إلى ذلك، وقال أكرمه الله وسدد خطاه:
[اطلعت على وجهة نظرك وهي محترمة ومعلله. والأفضل أن تكون موضوع حوار عام مع غيري لأني لا أنوي الدفاع عن رأيي بأكثر مما كتبت في الموضوع. ثم إن الرأيين يمكن أن يتكاملا ما دام القصد تنزيه القرآن عما يمكن أن يحط من مقامه لدى المؤمنين به.
ودمت في رعاية الله والسلام،،،
أبويعرب]
* * * * * * *
يقول الدكتور المرزوقي [2]،[1]
 "لا أحد من - الدجالين الذين يخوضون في اعجاز القرآن العلمي - سأل نفسه مرة واحدة: لماذا لا يكتشف لنا الاعجاز إلا بَعْدِيا؛ أي بعد أن يكون أحد العلماء الغربيين قد اكتشف حقيقة علمية، ثم هو يأتي بتأويل يرجحه على أنه مقصود الآية، مقصودها الذي لم يره قبل حصول الاكتشاف؟ كيف يدعي أن القرآن سبق إليها: بأي معنى ؟ بمعناه الذي في اللوح المحفوظ؟ لكن أليس هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؟ إذا صحت دعواهم فلِمَ لا يستخرجون هذه المعجزات قبل علماء الغرب فيمكنونا من التقدم عليهم، ويصبحون هم المتعلمين علينا، مع فضل الاستغناء عن البحث العلمي، وتكاليفه الباهضة، وتكوين الجامعات ومعاهد البحوث، ما دام هؤلاء الدجالون يكفوننا هذه المؤونة! يكفي سخفا وتلاعبا بعقول المسلمين. دعوا الشباب يفرغ للبحث العلمي الجدي الذي دعا إليه القرآن عندما وجهنا إلى آيات الله الكونية والشرعية ولم يقل إننا قادرون على اكتشافها من النصوص، التي وظيفتها الهداية والتربية الخلقية، التي تحض على النظر والعمل، ولا تقدم نفسها بديلا منهما. يكفي مواصلة للكلام الفارغ الذي جعل النهضة والصحوة مغشوشتين، للحفاظ على سلطانين غير شرعيين."
يُعد وَسْم الذين يخوضون في الإعجاز العلمي للقرآن بالدجالين – في أحسن أحواله - مثل وسْم الذين يخوضون الطب - في بدايات نشأة علم الطب - بلا علم مؤسس - بالدجالين، ومثل أي حرفة جديدةلم يبرع فيها أهلها بعد! ولكن الدجل ليس صفة عامة للمبتدئين في أي علم ناشيء، بل صفة من لا برهان لهم في علمٍ ما، ويأتون بالزيف مدعين أنه الحق، مع ظهور زيفهم بشهادة أهل العلم عليهم. ولكن علم الطب كان مطلوباً ولم يوسم أهله بالدجل، وإن أُخذ عليهم أنهم كانوا أغراراً وتسببوا في موت الكثير من الناس بتجريب الأدوية عليهم. فلا سبيل إذاً لما قاله الدكتور المرزوقي إلا أنه لا يقر بالإعجاز العلمي ذاته، وأنّ دجل الخائضين فيه – كما وصفهم - ليس عائداً لأخطائهم التفصيلية، علماً بأنها كثيرة، بل لمبدأ دعواهم بالإعجاز العلمي، ثم تمحلاتهم وفبركاتهم، وتلاعبهم بعقول المسلمين – كما قال المرزوقي - في سياق دعواهم.
فإن كان أصحاب الإعجاز العلمي أغراراً في قضية الإعجاز العلمي وما يلحق بها من تفسير علمي أو أسلمة للعلوم، فلا يمكن تفسير وسم المرزوقي لهم بهذه السمة القاسية، إلا في إطار السب والاستنقاص والتقزيم لهم، وكل ذلك بغرض الردع، وهو أمر لا نقره عليهم. كما وأن هذا المنهج الاستنقاصي لا يجدي نفعاً إن كان الإعجاز العلمي حق، مثلما أنه لم ينفع استنقاص قوم نوح لأتباع نوح، في النيل من دعوته، وذلك عندما قالوا له: "مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ"(هود:27). فإن كان من أهل الإعجاز العلمي من هو أهلٌ لنصرة مبدئه، فليقل مثل ما قال نوح: "يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ"(هود:28)، مصطحباً معه بيناته القاطعات، وبراهينه الساطعات.
ويستنصر الدكتور المرزوقي على أصحاب الإعجاز بسؤال قاسي هو: لماذا لا يُكتشف لنا الاعجاز إلا بَعديا؟! (يقصد بعد اكتشاف عين الظواهر الكونية وليس قبلها) قاطعاً بانعدام الإجابة عليه، ومن ثمّ إقامة الحجة على أصحاب الإعجاز العلمي حسبما يرى.
إن ما يطلبه الدكتور المرزوقي في هذا السؤال الاستنكاري يستلزم أن تكون المعاني الإعجازية بينة لأهل القرآن لمحض معرفتهم بلغته! وهذا ليس بضروري، لأن القرآن – وكما جاء فيه صريحاً – منه المحكم والمتشابه، أي: صريح المعنى وخفيه. وأن خفاء المعنى سيأتي عليه الأجل الذي يزول ويستبين المعنى ويصبح كما المحكم، ويصير محكماً مثله، وفي هذا يقول الله تعالى "سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا"(النمل:93). ولا ينبغي أن يقول قائل أن هذا سيكون يوم القيامة، لأن الآيات لا تكون إلا في الدنيا.
ثم لنأتي بشاهد مما لا ينفيه قارئ للقرآن، ويعلم شيئا من العلوم المدرسية الحديثة. يقول الله تعالى "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ"(النمل:88)، فالقارئ لقديم التفاسير لا يخطئ تفسير هذه الآية بحركة الجبال يوم القيامة، رغم أن قرائن الآية من ذكر بديع صنع الله وإتقانه، لا محل له يوم الفزع الأكبر، إذ أن العبرة وقتئذ بهول ذلك اليوم، لا يلائمها أبداً جمال وإتقان آياته ومظاهره، بل يلائمها الرهبة من أحداثه. فلما ظهر للناس حديثاً أن الجبال تتحرك في الدنيا مع اليابسة، واللتان كانوا يحسبونهما ساكنين، أسقط القرآن ما كان في حسبان الناس من جمود الجبال. فاللفظ صريح، والقرائن قوية، وكان التصور بعيداً، وكانت الثقافة مختلفة. فلما اتسعت المعارف، رأي المعاصرون ما لم يكن يراه الأقدمون، فلانت النفوس لقبول معاني، ما كان يمكن أن تعيها من قبل. وهذا دليل على أن انكشاف المعاني على علاقة طردية بالمستوى المعرفي للمفسر. 
ثم من كان يجرؤ من قدماء المفسرين على مجرد لفت الانتباه إلى أن مرور الجبال ربما يكون من أحداث الدنيا التي نعيشها يوماً بيوم؛ فلا بد وقتئذ أنه مُعرِّض نفسه للسخرية وسقوط المصداقية، رغم أنه سيكون عندها على حق. وليس كل حق يقال، مثلما أن القرآن لم يأت على صدمة المسلمين الأوائل بالحديث الصريح عن حركة الأرض، وغير ذلك مما يمكننا الآن أن نفهمه من شيوع ثقافة الكشوف العلمية بالكون، ولا نخطئها في القرآن من وفرة قرائن الآيات. وقد كان هذا الاشتباه مقصوداً في القرآن لهذه المعاني، كما قال تعالى "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"(آل عمران:7)، ولا يغيب عن عاقل أن ذلك من الحكمة الإلهية. وقد لفت علي ابن أبي طالب الانتباه إلى مثلها عندما [قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!" ، ومثلما قال ابن مسعود: " ما من رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم."][3]
فالأمر ليس بالبساطة التي ظنها الدكتور المرزوقي: من حيث قِبْلِية أو بَعْدِية الإعجاز العلمي للكشوف العلمية، بل لاختلاف الثقافة، وتهاوي الساقط من حسبانات الناس في علمهم بظواهر الحياة والكون؛ كلٌّ مع حلول أجله.
أما قول المرزوقي: "إذا صح دعواهم – أي: أصحاب الإعجاز- فلِمَ لا يستخرجوا هذه المعجزات قبل علماء الغرب فيمكنونا من التقدم عليهم ويصبحون هم المتعلمين علينا مع فضل الاستغناء عن البحث العلمي وتكاليفه الباهضة وتكوين الجامعات ومعاهد البحوث ما دام هؤلاء الدجالون يكفوننا هذه المؤونة!" – نقول: إن كنوز القرآن باقية، وعجائبه لا تنقضي، وما أراده الدكتور المرزوقي من السبق الحضاري لـمّا ينقضي أجله، وما ضاعت بعد فُرَصُه، والجايات أكثر من الرايحات كما يُقال في المثل العامي. ثم إن الله تعالى يقول: "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"(الأنفال:59).
وهنا لطيفة يغفل عنه كثير من الناس، وهي أن الحديث عن الإسلام شيء، والحديث عن المسلمين شيء آخر. والحاصل أن الخلط بينهما مربك، ومشوش على كثير من الأصعدة الفكرية والمسائل المختلطة بينهما. فالتفسير والإعجاز العلمي أمر يتعلق بالإسلام بالدرجة الأولى، سواء كان الطريق إليه مشحون بأعمال مسلمين أو غير مسلمين، كما وأن السبق الحضاري أمر يتعلق بالدرجة الأولى بالمسلمين وليس الإسلام، سواء كان الطريق إليه مشحون بالإسلام أو بغير الإسلام.
إذا علمنا هذا عن الفرق بين الإسلام والمسلمين، علمنا إن الله تعالى لا ينصر دينه فقط بحركة المؤمن، بل بالمؤمن والكافر، والحي والميت. وليس بغريب أن يُظهر الله الحق وتصديق كتابه على يد الكافر، بل إن هذا أدعى للحق من نصرته على يد المؤمن؛ إذ عندها سيقول الذين كفروا، هذه اكتشافات مفبركة، أتى بها المسلمون لتوافق كتاب دينهم، ولا نؤمن لهم فيها!. فإذا ما تمت هذه الكشوف على أيدي الكافرين أنفسهم، انقطعت حجتهم في ذلك. وقد أشار القرآن إلى مثل هذا الذي يجريه الله على أيديهم هم، فيكون آية لهم، كما قال تعالى " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ"(الأنبياء:30)، وكما قال سبحانه "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ..."(فصلت:53). فهناك إذاً رسائل مباشرة من الله سبحانه إليهم، وحجة الله تعالى غالبة علينا وعليهم، وقد ينتصر الله سبحانه للحق بنا أو بغيرنا، فلسنا بالضرورة مدار المسألة. كما أن الله تعالى قد استخدم الكافرين لإنجاز غزوة بدر على نحوِ قدّره سبحانه، وذلك عندما بيَّن ذلك وقال تبارك اسمه: " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا"(الأنفال:44). فمسألة التفسير ومن ثمّ الإعجاز العلمي في القرآن ليست مسألة حضارية؛ تجري المنافسة فيها بين المسلمين والكافرين! بل مسألة دين الله؛ الذي يقيم - سبحانه - حجته على النحو الذي يُقدِّره، ويستخدم في سبيل ذلك من يستخدم، ولا رادّ لأمره، "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ"(المدثر: 31).
ومن غريب قول الدكتور المرزوقي "إن صحت (دعوى الإعجاز فلها عندئذ فضل) الاستغناء عن البحث العلمي وتكاليفه الباهضة و ..إلخ". نقول: إن هذا الكلام "لا محل له من الصرف" (المعنوي) في المسألة برمتها. إذْ ما ادعى أحدٌ أن الإعجاز العلمي في القرآن مستقل، أو يمكن أن يستقل عن البحث العلمي العملي في خلق الله تعالى وصنعته. بل إن النظر في معاني القرآن لا ينفك عن النظر العملي في الخلق، وأيما مُفسِّر ومُدعي الإعجاز، ومنادي بفضل علم القرآن على علم بني أدم، ويزعم الفصل بين النظر العلمي في القرآن والنظر العملي في الخلق، فهو في شرود عن كليات "المقاصد العلمية" في القرآن – في مقابل "مقاصد الشريعة" التي يألفها قراء التراث. أوليس من المقاصد (العلمية) العليا أن يكون الإنسان خليفة لله تعالى في الأرض، وقد سخّر الله له ما عليها من شيء، كما جاء في النص القرآني؟! .. فهل يتفق هذا مع القعود عن التسخير والقيام بلوازم الخلافة؟ .. وهل هناك خلافة بلا علم عملي بما استخلف الإنسان فيه ومعرفة أسراره، وقيادة أمره، وتملّك زمامه؟! .. ثم كيف يستغني قارئ القرآن عن البحث العلمي في أمر الشمس والنجوم والسموات والأرض وأمثال ذلك مما خلق الله، ثم يدعي أنه يفهم مراد الله مما أنزله في كتابه عنها بمحض اللغة المعجمية الموروثة؟! .. وهل يقضي القاضي بمحض القانون، وبلا اطلاع على أعيان مسائل الخلاف؟! .. إنه إذاً قاض ظالم إن حكم بعلم القانون على غير علم بما وضع له القانون. وكذلك البحث العلمي، لأن نسبته للمفسر كنسبة أعيان مسائل الخلاف للقاضي.
يقول الدكتور المرزوقي[4]
 "أليست الوسطية مبدأً وجودياً ومبدأ قيمياً فتختلف دلالتها بين المستويين اختلافا يلامس التضاد؟ فالمبدأ الاول ينطبق على عالم الضرورة بنوعيها المادي الجامد والمادي الحي: حصيلة قوة الفعل ورد الفعل؛ وإليه ترد كل قوانين الطبيعة الميكانيكية، وحصيلة الصراع من أجل الحياة: وإليه ترد كل قوانين التاريخ الطبيعي. وقد اعتبرها القرآن كلها رياضية (يقصد حسابية عددية): لان الله خلق كل شيء بقدر (حساب). لكنه لم يحدد هذا القدر لان ذلك هو مجال البحث العلمي ولا يمكن طلبه من القرآن بخلاف مزاعم المتكلمين على الاعجاز العلمي في القرآن، كلاما ضرره على العلم والدين على حد سواء لا يقدر، بل تحديده لا يكون إلا من دراسة الظاهرات الطبيعية نفسها واكتشاف قوانينها كما دعانا إلى ذلك القرآن الكريم."
لا شك أن الله تعالى قدّر كل شيء كما علّمنا سبحانه في قوله "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا "(الفرقان:2)، وقوله – جل في علاه - "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ"(القمر:49)، وقوله "وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا"(الجن:28)، ولكن كيف قدَّره، وما الذي قَدْرُه، وأين نعلم هذا القدر؟ لو كان في قَدَرِنا العلم به، وهل هو في كتاب الله تعالى، أو هو في صميم بنية الخلق، أو في مجموعهما، وهل هو ظاهر يمكن حسابه، أو مستبطن يجب التنقيب عنه، أو غائب غير قابل للحساب، أو أو ... فهذه أمور غير مقطوع بفُرَصْ إحاطتنا بها، كما قال تعالى "وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ"(البقرة:255). أما الجزم بأنه ليس منه في كتاب الله شيء، فهذا ما لا يكون لأحد أن يقطع به، فالجزم بالنفي مثل الجزم بالإثبات، لا يكون إلا بدليل، ولا دليل نراه أعلى في عبارة الدكتور المرزوقي! بل إن الشواهد المبدئية تقرر أن هناك شيئاً مما قدره الله تعالى قد أتى به في القرآن، كما في قوله تعالى "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا"(الإسراء:12). .... فسرعة الضوء – على سبيل المثال - يمكن استخراجها بالفعل من القرآن الكريم، مع إسقاط الآيات على محلاتها من الخلق واستنطاق معانيه ومقاديره، ونحن بإذن الله على إثبات ذلك قادرون، وعلة المنكرين أو المتهكمين على مثل هذا البحث القرآني – بمعية معلومات الخلق - أنهم لا يعلمون به، فضلاً عن أن يعلموا تفاصيله، أما حبكة هذا الاستخراج وتأويله بما يتفق ومتطلبات القواعد العلمية فما زالت محل صياغة وتدقيق (يُراجع في ذلك كتاب: فتاوى شرعية في النظرية النسبية). وليس لأحد أن ينكر المبدأ بلا برهان، وأقصى ما يستطيعه الخصم أن يثبت فشل طريقة بعينها في استنباط القيمة على التفصيل، لا فشل إمكانية الاستنباط على عمومها، لاستحالة شمول النفي لكل الطرق الممكن التنبؤ بها، ولأن المنكر للمبدأ يصادر على القرآن فيما ينبغي وما لا ينبغي أن يشمله من علم.
أما من حيث القول بإنحصار معرفة مقادير ومعايير الخلق، في الطبيعيات والأحياء وأقدارها، في دراسة الظاهرات الطبيعية نفسها واكتشاف قوانينها، فهذا صحيح ولكن ليس على العموم، وترجع هذه المعرفة الجزئية إلى سببين:
الأول: أن هذه المقادير تؤول في شجرة كثرتها إلى مقادير أولية، لا يمكن معرفة مصدرها التقديري، وهذه يقدَّر عددها حالياً ببضع وعشرين قيمة عددية يجهل العلماء مصدرها، ويدور الترجيح على أنها مما لا يمكن استنباطه، وتُعنى بها النظرية المعيارية في تركيب الجسيمات الأولية standard model of elementary particles ونظرية المجال الكموميةquantum field theory . ومن بين هذه القيم "سرعة الضوء" المشار إليها أعلى.
الثاني: أن التنظير القائم على البحث التجريبي، والذي أصبح جزءاً من هيكل الفكر العلمي المعملي،يقطع بأن القيم الحسابية لها حد أدنى في إمكانية المعرفة اليقينية بها، ولا يمكن معرفة ما دونها من حيث المبدأ إلا بالاحتمال، ويسمون ذلك بمبدأ هايزنبرج اللاتقديري uncertainty principle. ولا يرجع عدم التقدير – في تأويل الغربيين لهذا المبدأ- إلى قصور العارف بها وآلات قياساته التجريبية، بل إلى أسباب كامنة في الخلقة والبنية!  -  وهذا الأمر يتعارض مع عموم تقدير الله تعالى (أي دقته وتعيّن المعلوم في نفسه) لكل قدر من مقادير الخلق – كما جاء في النص القرآني - وبما لا يحد هذا التقدير حدٌّ، كما يقول أصحاب هايزنبرج. وهنا يفرض السؤال الآتي نفسه: هل يقيد مبدأ هايزنبرج عموم التقدير وشموله كما جاء بالقرآن، أم يُفكك النص القرآني قيد هايزنبرج، ويُزيّف دعوته؟!
وإذا منعنا التفكر في هذه المسألة – كما يريد المرزوقي- من الجمع بين عموم الآيات، وقيود التجريب المأولة، وقعنا في حرج قبول المتناقضين في نفس العلماء والباحثين والطلاب المسلمين المعنيين بالمسألة، وتوابعها الفيزيائية التي لا حصر لها. وإن شرعنا في فك التناقض، لزم علينا تأويل الآيات، أو إعادة تأويل الدواعي التجريبية التي أدت إلى ذلك، أو كليهما، أيهما أولى. أي أن المواجهة حاصلة لا محالة.
أما من لا يعلم بالمسألة وعويص ألغازها، وحرجها في النفس بين القرآن والعلم التجريبي ومعادلاته، فالدنيا عنده جميلة، والدين في المسجد لا بأس به، والعلم في المعمل والمرصد لا عليه من دجل الدجالين وتشويش المشوشين! ..
والخلاصة: أن التفسير العلمي – وما يلحق به من إعجاز- ضرورة وليس ترفاً، ولا يمكن أن يكون دجلاً إلا لمن اقتحم لُـجَّته ولم يتأهل له من أنصاف المتعلمين! ومن كان كذلك، فكلام الدكتور المرزوقي يناسبه تماماً. أما من سعى إلى الرسوخ في المسائل العلمية، بين خلق الله تعالى وكلامه، فلا حرج عليه، بل إن الأمر قد أصبح عليه لازماً لزوم تكليف.
يقول الدكتور المرزوقي [5]
 "لا يوجد فكر غربي حديث واحد على حد علمي لا يسلم بأن المعرفة البشرية جامعة بين المضمون الحسي والشكل العقلي. .. (فـ) الفكر العقلاني يعتبر المضمون نفسه من صنع فعالية العقل فيعتبرها شرط حصول التجربة وذلك هو معنى تقدم العقل على الحس. والفكر التجريبي يعكس فيعتبر التصورات العقلية حصيلة الخبرة وذلك هو معنى تقدم الحس على العقل. وكانت المقابلة في شكلها البدائي مقابلة بين الفطري والمكتسب من العلوم. ثم حصل تأليف بين الحلين في ما يمكن ان يسمى بالفكر النقدي. ثم تفرع الأمر فأصبح النقدي المثالي يجمع بين أساسيات الموقفين مع ميل إلى العقلانية والنقدي المادي يجمع بينهما مع ميل إلى التجريبية. ولا أحد من هؤلاء يمكن وصفه بالوسطية لأن الطرفين لا معنى لهما خارج الوسط بل هما لا يقومان إلا به. أما الوسط الذي يختلف عن هذه المذاهب الأربعة إن سلَّمنا بوجوده فهو لا يمكن أن يكون إلا وسطا بين الموقفين النقديين أو بلغة سياسية وسطاً بين وسط اليمين ووسط اليسار: فهل هذا ما يقصده الاستاذ (محمد عمارة)؟ (يقصد في حديثه عن الإسلامية الوسطية)
لكن اذا واصلنا القياس على منطق التقازيح في القوى السياسية فإن هذا الوسط لا يعد أفضل الحلول بل هو أفسدها لانه موقف المتحينين الانتهازيين الذين يحاولون الاستفادة من عمل الآخرين دون أن يعملوا ويبقون دائما شبه رديف في تأليف الاغلبيات ! فهل نريد الفكر الاسلامي أن يكون من هذا الجنس فلا يعمل من أجل الابداع الذي من شرطه الذهاب إلى الغايات بل يقف في الوسط ويكتفي بالاستحواذ على إبداع غيره وينسبه إلى نفسه بتأويل المعاني العامة من نصه الديني كما يحصل في ما يسمى بفكر الباحثين عن الاعجاز العلمي في نصوص القرآن ؟ أم هو ينبغي أن يكون فكرا مؤلفاً من كل هذه التقازيح ككل فكر سوي؟...
بعيداً عن كلام الدكتور المرزوقي عن الوسطية العامة، والوسطية الوجودية، والوسطية القيمية، في ردوده على "محمد عمارة"، وهو ما تتناوله الدراسات الحضارية المعرفية، والتي من مثلها التقطتنا الفقرات السابقة -  فإننا نركز في أقواله عن الوسطية المعرفية – التي استخدمها في معالجته لعلاقة النقل بالعقل، ونقده لها في فكر الشيخ محمد عبده، في سياق ما جاء في مدح أفكاره الوسطية، على لسان محمد عمارة. وإذا ما فعلنا ذلك ينتهي بنا الأمر إلى التفاجؤ بإسقاطات المرزوقي لهذه الوسطية المعرفية – التي يسخر منها- على الإعجاز العلمي، والنيل منهما جميعاً.
ولا يخفى على قارئ كلام المرزوقي السابق أنه يجعل من الوسطية المعرفية موقف انتهازي لأصحابه، وهو ما يتضح في أكثر من تصريح له، من مثل قوله: "أصبحت الوسطية تعني التعامل البراغماتي مع طرفي المعادلات العملية بدل طلب الحقيقة النظرية والعملية" – ويهمنا من ذلك مبدأ الإعجاز العلمي دون أعيان من يتبنونه فيحسنون صنعاً أو يسيئون فعلاً - فيصورهم المرزوقي وكأنهم كالراقصين على السلالم قاصدين متعمدين، ليلتقطوا من ثمار الأطراف ما أينع منها، لا عن حرث ورعاية، بل عن انتحال، أو سطو، أو وصاية! ... وهذا تجريح بيِّن، لا عن قرائن تدعم، ونماذج تتكلم، بل عن قناعات كلية، ونظرات إقصائية، لم تبتل يدا صاحبها – على ما يبدو - بمياه مسائل الموضوع، ولا بتحليل صور المسائل في مرائي القرآن، والخلق المسكون، فيُثبت من ذلك اختلاف أو اختلاق، وتباين وافتراق. فيقيم من ذلك الحجَّة، ويعلن براءته عن مسلكهم و رِدَّة.
أما الوسط المعرفي الأجوف الذي وصفه المرزوقي بلغة السياسة، بين أربع مذاهب يمين، ويمين الوسط من جهة، ويسار ويسار الوسط من الجهة الأخرى، والذي إذا استقصينا معناه في مسألة الإعجاز العلمي المغضوب عليه، لوجدنا أنه كلامه يؤول إلى أن الإعجاز العلمي لا هو ديني اهتدائي (يمين)، ولا هو علمي تجريبي (يسار)، ولا ديني نقدي للنظريات التجريبية (يمين الوسط)، ولا علمي تجريبي (يسار الوسط)، وليس له إلا موقع الفراغ بين هذه المذاهب الأربعة! – ومن ثم فهو لا شيء!
نقول: إن ولع الإنسان بالتسميات، وهي الغريزة المعرفية التي جُبلنا عليها، إذا تحكمت فينا، بدلاً من خدمتها لنا في الفهم، تقصرنا على إعدام البينيات بين الأسماء! حتى نكاد ننساها لا عن سهو أو غفلة، بل عن استنكار وإعدام وجود! فإن عثرنا على مثلها، أربكت أسماءنا، وكانت كشواذ القواعد، التي لا عبرة بها، وعمدنا إلى تفريغها من معانيها. ومن هذا النوع الذي لم يجد له المرزوقي محلاً في قاموس الأسماء، كان الإعجاز العلمي في القرآن! فلا هو علم خالص، كما تعرفه المعاجم المعرفية، فيدرج معها، ولا هو دين خالص، فيدرج معها، بل شذ عن هذا وذاك حتى أصبح هجيناً مذبذبا، لا هو من هذا ولا هو من ذاك! فيستنكره الـمُنَظِّرون، ويسعون إلى التبرأ منه، وكأنه فكرٌ سِفاح! وقع فيه من حُرموا نعمة الطهارة العقلية، فمُنعوا منازل الأسماء الموثَّقة بعقود شرعية، أو علمية! وسكنوا طرقات المدينة، تائهين مُبعدين.
وعاب المرزوقي على الإعجاز العلمي وقوعه في وادي الوسطية، والافتقار حتى إلى درجات – أو تقازيح – الوادي بين شاطئيه. وأدنى ما لم يجده من هذه التقازيح، ركني الوسط، من يمين ويسار. ولكنه نسى أن الإعجاز العلمي وسطاً بين العلم والدين اللذان يمثلان شاطئي الوادي، فهو وسط أيضاً بين التفسير العلمي وأسلمة العلوم، وهما يمثلان كتفي الوسط. والتفسير العلمي كما هو معلوم، المعالجة العلمية لآيات القرآن، فهو من ثم بين الوسط وشاطئ الوادي العلمي، كما وأن أسلمة العلوم، هي المعالجة القرآنية لموضوعات العلم، ومن ثم فهي واقعة بين الوسط وشاطئ الوادي القرآني. فالتقازيح الأربعة قائمة على خارطة هذا النوع من الفكر، ولكنها بالتأكيد غائبة عن مطبوعات من يقررون مناهج العلوم، لأنها على ما يبدو قد تنادي بمعاداة السامية أو زوال دولة إسرائيل!!! وهذه من المحرَّمات، ربما في أغلب أحوال البشرية الآن! وبما يفوق معاداة رب البشر سبحانه، وهو أمر أصبح من حرية الفكر، ولا حرج فيه!!!
أما الوسط الوسط، فهو مآل الاتزان ومجرى الوادي، ومع سريان الفكر الإسلامي في هذا الوادي، لا ينبغي أن نطمع دائماً أن أي من مسائله لا بد وأن تختط مساراً حاداً في وسطه، فالانتشار سنة إحصائية، ونصيب كل مسألة يتفاوت من ذكر أو إلحاق في كتاب الله، ومن ثم قربها او بعدها عن شاطئه، ومن دعم أو افتقار لتجريب أو اختبار أو معاينة، ومن ثم مدى القرب من شاطئ الوادي العلمي. .. والنتيجة: أن عيون المسائل في مجرى الوادي مع الزمن لها مآلات تستقل بها كل مسألة.
والجدير بالملاحظة هنا أن الإعجاز العلمي ليس بخاطر عابر، أو عطاء من السماء وافر، لكل من جلس يتفكر في آية قرآنية وظاهرة علمية، يظن أنه يصل من قريب، لإعجاز علمي فيها، قبل أن يأتِ على كوب شاي آخر!، وهذا التصور يكاد يقع فيه الكثيرون من رواد نادي الإعجاز العلمي، ثم يروه منهم من ينتقدونه، فيجدون فيهم بُغيتهم ويستغلون سذاجتهم. وهذا الأمر بعيد كل البعد عن الرصانة العلمية، والرويَّة الفكرية، والاستيعاب والفهم، والفطنة والعلم. لذلك وجد المرزوقي في هذا الفهم الساذج من الإعجازيين مطعناً، فَوَجَّه سهامه إلى الإعجاز العلمي الخالص! والإعجاز الحق من سذاجة هؤلاء بريء. فيقول المرزوقي: "والأمم التي لا تجرب الحدين لا يمكن أن تصل إلى فهم الوسط الذي هو ذروة اتصالهما الفاضل". وهذا الكلام صائب شديد الإصابة. لأن الإعجاز العلمي الرصين هو نهاية تقاربية لتفحص مسألة علمية عن كثب، وخوض غمارها من تاريخ وتجريب ورصد وتنظير وقول ومقال، ثم تفسير وتأويل ولغة ومعنى، ثم جهد طويل، وفشل كثير، وعود وتواتر على ما ارتبط بها من مسائل، وهكذا دواليك، حتى إذا ما فرغ الوسع، فلربما يكون في الفهم نصيب، أو أن يصل فيها باحث آخر بعد عقود أو قرون من الفكر، إلى إعجاز أو ما منه قريب. فالحنكة العلمية في شطآن الوادي، والتمكن من معرفة تضاريسها عن تفصيل، ضرورة لمن يريد أن يبحر في عرض الوادي. ولا يعلم مخاطر البحار إلاّ الذي ولجها. أما من قفز بمظلة أحلامه في غور الوادي، فهو هالك لا محالة، أو جاهل عابث، تائه شارد، يظن أنه يحمل من قاعه الجواهر، ويعلم خبراء القيعان والشطآن أنها حجارة لا تساوي عند أهل العلم قرشان، أو ربما أنه استيقظ من نومه وهو بما رآه في أضغاثه متهللاً فرحان، يقول للناس هاؤم اسمعوا إعجازيا، إني اجتهدت وبلغت منه رتبة عالية!
يقول الدكتور المرزوقي [6]
 "وأي فائدة من كلام العلم، بالنسبة إلى نص يعتبر العلم أحد عناصر التجربة الدينية (يقصد كما يدعي أصحاب الإعجاز)، دون أن يكون أهمها، فضلاً عن أن تكون مقصورة عليه؟ وإذا كان النص الديني يتكلم لغة العلم، فما الحاجة إلى البحث في مناهج للفهم والتفسير ولغة العلم غنية عن ذلك؟ لأنها تواضعية، ومن ثم متحررة من اللبس باطلاق؟ مثل هذا التصور سيغنينا عن التأويل والهرمينوطيقا ويعيدنا إلى سذاجة فكر العصر البائد من الوضعية العلموية. فلنمر إلى فرعي الاشكالية إذ لا فائدة من الخوض في أمور قد لا تكون خطرت على بال المتسرعين، في بناء مشروعات التغيير بديلا من الفهم والتأويل، بين مفكرين يغلب عليهم طلب الزعامة والنجومية بالتدجيل."
إذا تغاضينا عن اتهامات طلب الزعامة والنجومية وشبهة ممارسة الدجل (التدجيل)، وهي جميعاً من سرائر القلوب، لا حجة بها أو عليها، تغني عن المطلوب، ثم نظرنا في آيات القرآن، وكونها من العلم، أو فوقه، أو غيره، فلا نجد معنى للقول السابق إلا أنه لا فائدة لطلب العلم من أستاذ ينطق به من نفسه! – فكفى بنا إذاً طلاباً ساذجين، مقلدين هامدين، لا مأولين، ولا خائضين!
ولكن مسرح الإعجاز العلمي – وما يتبعه – في رواية القرآن، لا يعرض مشهداً كهذا، حتى وإن مثَّلت المشهد طفيليات على مدرجه! ومعلوم أن أتباع النجوم دائماً يزفون، وحولها يتلاحقون، ولا يضرها حسنهم أو قبحهم، لأنهم حتماً عنها ساقطون، وما لها من ذَنْب إلا أن نجمها كالؤلؤ المكنون، وبهاءها يطلبه الرائون.
أما مشاهد الحق، ومواقف الصدق، على مسرح الإعجاز، فهي أن آيات القرآن صياغة متقنة، وللقرون وأفهامها متجاوزة، وللثقافات عابرة، دون تشويش على الأفهام محرجة، لظواهر مستعصية، تحيِّر ذوي الألباب المفكرة، يقضون أعمارهم عيونهم لها ساهرة، وقلوبهم إليها طامحة، يودون أن يفهموا، وحتى لو راحت الروح بعدها، فالنفس ليست خاسرة. فإذا شمروا لها عن سواعد للجد منقبة، ومجربة، ومحللة، قد يقول قائل إنها ظاهرة، وما فائدة الكد والجهد فيما كان ظاهرا، وإن أوّلوا الآيات يستفهمونها ويستعلمونها، علها تفصح عن أسرارها، قالوا إنها مُعَلِّمة، فلِمَ تطلبون العلم ممن جاء به لقمة سائغة. نظروا من بعيد، فظنوا أن كل مأكول مهضوم، وكل مسموع مفهوم، ونسوا قول الحبيب المصطفى أنه "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فالعلم والفقه رميتان - حبيبتان إلى النفس - من الله، تمر مر السهام، فتراها الركبان لا تعلم سرها ومن لها، ولا تصيب إلا من كان هناك حيث أراد الرحمن. يعلم أنه لها مشرئب الجنان، باذل الجهد، رامق الأفاق، وساعده لم يكل ولم يمل، ملتقطها من عين الزمان.
ومن حيث المواضعة العلمية والتحرر من اللبس، يقول الدكتور المرزوقي
 "إذا كان النص الديني يتكلم لغة العلم، فما الحاجة إلى البحث في مناهج للفهم والتفسير ولغة العلم غنية عن ذلك؟ لأنها تواضعية ومن ثم متحررة من اللبس باطلاق؟"
– إذا كانت هذا الكلام صحيحاً، فلا بد أن تكون لغة العلم الإمبريقي، الذي هي أشد العلوم علمية، وأغلبه صياغات قانونية رياضية، وضعها واضعون لتتفق والظواهر التجريبية الصادقة بنفسها، لا بد وأن تكون متحررة هي الأخرة من اللبس! ولكن الأمر غير ذلك، وتحت أيدينا عشرات الأمثلة العينية من معاناة العلماء التجريبيين من محاولات مستميتة لرفع اللبس، وإعادة المواضعة تلو المواضعة دونما فائدة من رفع شيء من ذلك إلا نادرا! – وليس أقرب ولا أشهر من الفيزياء الكمومية من اعتراف العلماء بتمنعها على الفهم واللبس[7]، بل إن صاحب النسبية، في رسالة شهيرة إلى صديق له، ينصحه بعدم تصديق من يدعي فهم المعادلة المنسوبة إليه! عن علاقة الطاقة بالتردد E=hn... لماذا؟ .... لأنه اضطر إلى استلالها من معادلات أسبق منها، ولا يفهم هو نفسه معناها، وإلا لما نفى الفهم عن كل من عداه!!. إذا كان الأمر على هذا المنوال في العلم التجريبي، الذي تتخلق آياته كل يوم على عين الإنسان، وبتدخل مباشر منه، فما القول في علم إلهي ولغة إلهية أنزلها سبحانه بحكمة وأجل، يعلم لكل آية وحُكم فيها ميعاد ظهور، وانكشاف أسرار!
يقول الدكتور المرزوقي[8]
 "لا أحد على حد علمي قال بوحدة الدين والعلم بمعنى أنهما شيء واحد، أو حتى من نفس الطبيعة، لا من المسلمين ولا من غيرهم حتى في عصر الظلمات. ذلك أن الجميع يسلم بأن الدين أسمى من العلم وأعم، مهما بلغ شأوه وارتفعت منزلته حتى لو كان علما بالدين إذا لم يكن مصحوبا بالتدين، أعني ببعد من الدين يجعله الأسمى. وإذن فالكلام على ضرورة الفصل والتمييز بينهما يبدو لي كلاما في مشكل زائف. وحتى  الرد على كلام بعض الدجالين في الإعجاز العلمي لا يبرره لأن هؤلاء الدجالين يفصلون بين العلم والدين ويريدون تأييد الدين بالعلم: وهم يتصورون أنفسهم رافعين من شأن القرآن عندما يزعمون له الإعجاز العلمي، ولا يدرون أنهم يحطون من الحقيقة الدينية إذ يجعلونها تاريخية، كما هو جوهر الحقيقة العلمية."
نقول: الدين والعلم، يؤولان بلا خلاف من حيث المضمون إلى أن الدين هو كلام الله تعالى الذي يحمل رسالته للناس بما أراد سبحانه منهم، يدينهم به، في حين أن العلم هو نصيب إدراك الإنسان من المعلوم، ديناً كان أو دنيا، ومن ثم، فهو محدود بإدراكه المشوش عادةً، وناقص عن الكمال دوماً. ومن هنا يَصْدُق قول القائل أن العلم أدنى من الدين.
ولكن، ليست هذه الصورة هي المقصودة نظرياً في مسألة الوصل والتوازي بين الدين والعلم، في مسائل التفسير والإعجاز العلمي. أما الصورة الصحيحة فهي أن الدين هو كلام الله الخالص، وبمعناه الذي أراده الله منه، وهذا لا يُفاضَل مع  شيءٍ آخر إلاّ الكون وموجوداته التي خلقها الله، وعلى النحو الذي خُلق بتمام أسراره وغاياته. ولأن الدين كلام الله، والخلق خلق الله، فهما راجعان فقط إلى الله وحده، فرتبتهما واحدة، وجمع مصدريهما محمدة، ولا حرج في ذلك إلا عند قليلي الفطنة والتبصرة!
أما الصورة العملية بين الدين والعلم فتذهب إلى المقاربة بين (العلم بالقرآن) و (العلم بالموجودات). وهذا لا بأس به، لأن كل علم – يعلمه الإنسان- بشري التصور من جهة مُتَلقِّيه، إلا ما كان من الوجود والقرآن مُحْكَمَيْ المعنى، فالأول يدل بالقطع على وجود الخالق الذي أنزله، والثاني يدل بالقطع على وجود الـمُبدع الذي أبدعه. وكل عمل بشري فيما وراء ذلك – من حيث كونه بشري - فغير منزه عن المراجعة والرد، وقابل للتأييد والتفنيد، والترجيح والتشتيت. ومن هذا الباب، فلا بأس أن يتكلم – المجتهد - في وصل الدين بالعلم تفسيراً، أو وصل العلم بالدين أسلمةً، أو تساويهما إعجازاً. ومهما قال قائلهم، وادعى داعيهُم، فلا قبول إلا بحجة وبرهان. فالنزاع ليس في حَجْر الأفهام عن الكلام أو إطلاقها، بل في صدق المقالات وإفحامها، وليدّعي من شاء من أهل الإعجاز ما شاء، فإن صَدَق فنحن أول المؤمنين، وإن كَذَبَ، فنحن أول العاصين، وإن تلعثم أو تردد فنحن أوّل الناصحين.
وإن كان الإعجازيون السابق ذكرهم يفصلون بين الدين والعلم، أو يوصلونه، وإن كان منهم دجالون أو صادقون، فالحكم على أعمالهم تفصيلاً لا يُزكَي لهم منهج، ولا يرُى الإعجازُ من زلاتهم من العلوم علماً، مصانٌ مقامه، مرفوعةٌ أركانه، له أساتذةٌ وطلابُ، ووظيفةٌ وترحاب. ولا يعني هذا كله انعدام الإعجاز العلمي، وانقضاء حجج القرآن، بل يعني أنه لم تتضح لهذا العلم بعد معالمه، ولم تتأصل له قواعده. ولا غرابة في السعي إلى ذلك ما دامت الشمس لم تأت بعد من مغربها، وتظل فسائل فهم القرآن واجب زراعتها، ولو غمضت على أهل العلم والفلسفة عنهم مسائلها.
وإذا فُهمت علاقتي الدين بالعلم؛ النظرية والعملية، اللتان شرحناها أعلى، فعندئذ تكون عبارة المرزوقي من أن أصحاب الإعجاز "يحطون من الحقيقة الدينية إذ يجعلونها تاريخية، كما هو جوهر الحقيقة العلمية" غير واقعية. فالذي يجعل من أي زعمٍ حقيقة، أن يسري بين الناس غير مدحوض ولا مفضوح، حتى وإن سُبَّ صاحبه، وتهالت عليه اللعنات. أما الذي يوقفه ويكبحه، فهو السعي في إظهار تهافته. فإن هوى من نفخه، فمثله مثل آلهة قريش التي كانوا يخلقونها إذا شبعوا ويأكلونها إذا جاعوا. أما إن استعصى من دعاويهم شيئٌ، فنحن لها موقرون، وإن صمدت وتعالت وتأبت، فنحن عنها مدافعون.
يقول الدكتور المرزوقي [9]
 "لعل الرد على الموقف الأصولي الماركسي الذي يرد الدين إلى الإيديولوجيا، والموقف الأصولي العلموي الذي يرده إلى الخرافة هو المصدر الأول والأخير لخرافة الإعجاز العلمي في القرآن؛ الخرافة التي يزعم أصحابُها أن القرآن كتابٌ علمي يحسم مسائل معرفية في ظاهرات العالم والتاريخ."
لا ينال الإعجازَ العلمي من هذا السب شيءٌ، ولا تسقط له راية إن كان صادقاً في نفسه، وإن خذله أصحابه. أما تبرير وجوده إلى رد فعل إسلامي للأصولية الماركسية التي تُأدلج الدين، أو أصولية علموية ترده إلى الخرافة، فليس إلا تحليل لما يُفترض أنه ساقط، والفرض غير مبرهن، ولا أن التحليل مدلل. وحتى وإن صدق التحليل سبباً، فلا يهوي مسبَّب صادق لمثله، مثلما أن غزوة بدر كانت حقاً، وكان سببها التاريخي اعتراض عيرَ قريش.
ويتابع
 "وهم (أصحاب الإعجاز العلمي) يتصورون ذلك أمراً يرفع من شأن القرآن، حتى إنك قد تسمع أحد الدجالين يزعم أنه قد أدخل الآلاف إلى الإسلام بهذه الحجة الواهية، رغم أننا لم نسمع بأي انجاز علمي اكتشفه قبل غيره، عدا مماحكات لغوية لتفسير بعض الآيات القرآنية في غير وجهها، متناسيا أن القرآن نهى عن تأويل المتشابه سواء كان في الخبري أو في الإنشائي من الدين!"
نقول: نخشى أن يكون الحَكَم في صدق المتكلم في الإعجاز زيوع صيته، أو امتداد رصيده في كشوف علمية، وجميل العبارة اللغوية. ومثل هذه الصفات لا نفتقر إليها من المسلمين، الذين يملؤون الدول ويعمرونها، أفإن قال منهم قائل بالإعجاز – بلا برهان ولا استدلال- صدقناه، ورفعنا له أيدينا وباركناه؟! – إنما العبرة بعين المقول، أو كما قيل "لا تعرف الحق بالرجال، بل إعرف الحق تعرف أهله."
أما النهي عن تأويل المتشابه، فهذا حق فيما ظل متشابها على ما كان. ومثلما أنه يجوز استئناف أي قضية قد صدر فيها حكم سابق إذا جد في أمرها جديد، كذلك المتشابهات من آيات القرآن، يتراءى لكثير من أصحاب الإعجاز معاني جديدة لآيات قرآنية، من احتكاكهم بمستجدات الكشوف والنظريات العلمية، فيستأنفون التفسيرات السابقة بجديد المعارف. وهذا من حيث المبدأ النظري لا بأس به، غير أنه من الناحية العملية، والتحقيقات العلمية، قد يكون به الكثير من البأس إذا التبست المعاني، وانتقصت المباني اللغوية، وتشوهت الأفهام. وعندها، يَرد أهل التحقيق الأمور إلى نصابها، فيرفعون الحق ويضعون الباطل دونه. فتنتهي المسألة بلا سب ولا نيل، وتنجلي المعضلة، فتكون علماً وتفهيما، لا يقع في مثلِها بعدها، من عرف ما كان من أمرِها. أما السب فلا ينهي باطلاً، ويظل معه الباطل متطاولا.
ويتابع
"لم يدركوا أن في ذلك حطاً من القرآن إلى المعرفة التاريخية التي تتغير وتتطور، فينزلون به من منزلة الخطاب المحدد للشروط المثلى التي تجعل الاستخلاف الإنساني في استعمار الأرض يتحقق على أفضل الوجوه، إلى منزلة إحدى أدوات هذا الاستخلاف؛ أعني العلم من حيث هو أداته الرمزية بالنظريات العلمية وأداته الفعلية بالتقنيات العملية: إنهم يحطون الغايات إلى منزلة الأدوات وبدلا من رفع الأدوات بجعلها مناسبة للغايات ليكون الاجتهاد الإنساني مستنيرا بالهدي القرآني يعكسون فيجعلون القرآن الكريم تابعا للاجتهاد الإنساني."
نقول: المقدس دائما متعال، فيظن الناس أن تقديسه رفعه دوماً فوق السماء، وهم بهذا يُحرِّمون إعماله - غافلين أو قاصدين - ظانين أن هذا الإعمال نيلاً من تقديسه لا يليق به، كالذين قالوا من قبل "لا حكم إلا لله"، يخدعون الناس بتقديس حكم الله، وكأن حكم الرجال بكتاب الله ليس حكماً لله، فينأون عن الحق مكراً وتملصاً  .. ونذكر أقواماً نزّهوا القرآن بزعمهم فعطلوه، حتى سُموا بالمعطلة. وقريباً منذ عقود حرم أناسٌ طباعة المصحف بالآلات، وقالوا: كيف تطرق المطارق على كلام الله؟! وربما كان لبعضهم مهنة نسخ المصاحف، ويخشى أن يفقدها! – نقول: إنما أنزل الله تعالى كتابه ليُعمل به، لا ليُحجب عن الواقع، كحجب ماء السماء عن الأرض الجرداء! وقد قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ .."(البقرة:26) فالله تعالى متعالٍ فوق الوجود، ولكنه يوحي إلى النحلة بما شاء، ويحب المؤمن القوي، ويرأف بالمؤمن الضعيف، والله تعالى قريب، رغم أنه بكل شيء محيط. فلا عبرة بالزعم بتنزيه القرآن وجعله غايات – كما جاء في العبارة السابقة – وأنه إذا أصبح أدوات كان ذلك من الانتقاصات. وكما أنه "لا حكم إلا لله" لا قيام لها إلا بالرجال المؤهلين بهذه المهمة، فكذلك "لا تفسير لآيات الإعجاز المتشابهة" إلا بقيام الراسخين في العلم بها. أما قتل "إعمال كلام الله"، فتعطيلٌ له. وقد أقر علماء الأصول في قواعدهم أن "إعمال الكلام أولى من إهماله". وما نراه الآن من أقوال قرأناها، إلا خلاف هذه الأصول، تقول أن "تقديس القرآن أولى من إعماله!".
يتابع ويقول
 "سبق لحجة الإسلام (يقصد أبو حامد الغزالي) أن عالج هذه القضية في إحدى مقدمات تهافت الفلاسفة فقال قولته الشهيرة التي ميز فيها بين مطلوب الدين ومطلوب العلم في المعرفة عامة. فقد ضرب مثالين يقربان معنى علاقة مطلوب المعرفة الدينية ومطلوب علم الفلك في معرفة العالم. فالدين يطلب الدليل على كون العالم مخلوقاً لله، ولا ينشغل بجزئيات قوانين العالم، لأنها مطلوب العلم من حيث هو معرفة بآليات عمل المخلوق، لمحاكاته في تعامله معه أداةً للعمل، من حيث هو شرط التكيف مع المحيط الطبيعي والتاريخي."
(لم نجد هذه النصوص في مقدمات كتاب تهافت الفلسفة، غير أنها تلتقي من بعيد مع بعض العبارت هناك، مع تغير ملحوظ في الاصطلاحات، فما ذكره الدكتور المرزوقي بإسم "مطلوب الدين" جاء هناك بإسم "الإلهيات"، وما سماه "العلم" جاء هناك بإسم "المنطقيات والرياضيات"، كما جاء الحديث عن خسوف القمر وكسوف الشمس في سياق مختلف!)
ونستغرب أشد الاستغراب من هذا الربط بين حجة الغزالي على الفلاسفة في تقييدهم العلم بالإلهيات بالعلم بالرياضيات والمنطقيات؟ وبين دعاوى الإعجاز العلمي! ... فقد كانت حجة الفلاسفة أن يوهموا الناس بأن العلوم الإلهية غامضة خفية، وأنها أعصى العلوم على الأفهام الذكية؛ ولا يتوصل إلى معرفة الجواب عن هذه الإشكالات، إلا بتقديم الرياضيات، والمنطقيات. فإذا صدقهم الناس لصدق علومهم الرياضية والمنطقية، انخدعوا بصدقهم، ووثقوا في براعتهم، وتقبلوا منهم لغوهم وكفرهم في الإلهيات! فقام الغزالي يدحض هذا الزيف، ويبين أن هذا ادعاء باطل.
نقول: أين هذا السياق من سياق أصحاب الإعجاز العلمي الذين يقولون فيه أن بعض آيات القرآن تتناول أسرار الخلق، فتلتقي بما اكتشفه العلم الحديث، وبما يقطع بأن الوحي بالقرآن جاء من لدن حكيم خبير؟! فالإعجاز العلمي لم يدَّعِ إلهيات مخالفة لما في القرآن، ولم يستدرج أصحابه الناس بالآيات العلمية لبث سموم تضللهم كما فعل الفلاسفة الذين انتفض الغزالي لفضحهم، ولم يوقفوا الإيمان بالإلهيات على الإيمان بالآيات العلمية. بل قالوا أنها آيات لمن لا يعلم صدق القرآن، بأنه صادق لا محالة بسبب صدق هذه الآيات في مظاهر الخلق، والمكتشفة بعد نزول القرآن بقرون كثيرة. أي أنها نبؤآت عن موجودات. فلما عُلمت الموجودات، تحققت النبؤآت. وهل النبؤآت إلا من صميم مهمة النبي، والتي منها اشتق لفظ "النبي"؟!
وهناك افتراقات كثيرة بين مسعى الغزالي (حسبما يقول الدكتور المرزوقي) وبين سياق مسألة الإعجاز، فالنقل عن الغزالي قوله: الدين يطلب الدليل على كون العالم مخلوقا لله، ولا ينشغل بجزئيات قوانين العالم. إنما يقصد من الدين الإلهيات. والدين يتناول بعد الإلهيات مسائل كثيرة لا تندرج فقط في العلم بذات الإله – جل في عُلاه، بل بما خلق الإله، ولا يمكن إخراجها من الدين. ونذكر منها على سبيل المثال، آيات المواريث. ومن كان له علم بها، واطلع على كتاب الجبر والمقابلة، لعَلِمَ أن الخوارزمي وضع هذا العلم خصيصاً لمعالجة آيات المواريث ومسائله، وإنزالها منزل التطبيق، مما نتج عنه أن النصف الثاني من الكتاب لم يكن إلا تطبيقات على المواريث. فكانت آيات المواريث مشتملة على فن الجبر والمقابلة بالقوة، استخرجها وبوبها وفصلها الخوارزمي ومن سبقه كفنِّ مكتمل لا يُستغى عنه لإعمال بعض آيات القرآن. فهل لا نحسب للقرآن فضل في تعليم الإنسان علم الجبر؟! أم أن المواريث ليست من الدين لأنها ليست من الإلهيات؟! – والأمثلة بخلاف ذلك عديدة، ولو شئنا واتسع المقام لأفضنا عنها الحديث، ويكفينا في ذلك قوله تعالى "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"(البقرة:282).
ثم نقرأ العبارة التي تقول أن "مطلوب العلم .. هو معرفة بآليات عمل المخلوق" فنلاحظ أن لفظ العلم الذي يستخدم في العصر الراهن والذي يرتبط مباشرة بالإعجاز العلمي هو العلم بالتجريبيات والمعمليات وما يلزم لها من رياضيات. ولم يرد هذا اللفظ في كلام الغزالي بهذا المعنى الخاص. بل لم يكن يستخدم لفظ العلم منفرداً – في زمن الغزالي - إلا بما يناقض الجهل في سياق موضوعه، ولم يكن يفهم منه ما نفهمه الآن. ثم إن هذه العبارة قد صاغها الدكتور المرزوقي خصيصاً لتلائم ما يريد نقضه، أي: "الاحتياج للعلم لفهم آيات القرآن". ولو صدق نقض هذه العبارة، لكان قول القائل بأن [القرآن لا يستدعي العلم للوقوف على صدقه وفهم ما اشتبه منه؟!] قولاً مستساغا!! .. ولكن هيهات .. لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ"(الحج:54)، وقال أيضا "وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"(سبأ:6).

المؤلف 


[1] أبو يعرب (محمد الحبيب) المرزوقي (1947-)، فيلسوف تونسي، حصل على إجازة في الفلسفة من جامعة السوربون 1972م ودكتوراه دولة في الفلسفة العربية واليونانية 1991م. متخصص في الفلسفة العربية واليونانية والألمانية , له توجه فلسفي إسلامي في إطار وحدة الفكر الإنساني تاريخيا وبنيويا. عمل أستاذا للفلسفة في جامعة تونس الأولى (1980-2006)، والجامعة الإسلامية بماليزيا، ومديراً لمعهد الترجمة (بيت الحكمة). له أكثر من مائة بحث ومقال، وعشرات المؤلفات. وأخيراً انخرط في العمل السياسي كعضو منتخب في المجلس الوطني التأسيسي التونسي عن حركة النهضة الإسلامية 2011-2012.
[2] " كيف نفهم إشكالية الثبات والتغير في مقرر العلوم الاسلامية ومناهجها"، أبو يعرب المرزوقي، ؟ موقع الملتقى الفكري (الرابط الأصلي): http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?id=211&cat=15
الرابط البديل 

[3] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 4/380.
[4] " تعليق على بحث الاستاذ محمد عمارة: "مقال في وسطية العقلانية الاسلامية" ، أبو يعرب المرزوقي، موقع الملتقى الفكري (الرابط الأصلي): http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?id=325&cat=12
[5] المرجع السابق.
[6] "كيف نفهم آراء صاحب العالمية الثانية"، أبو يعرب المرزوقي، 
موقع الملتقى الفكري (الرابط الأصلي): http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?id=82&cat=1
[7] يقول ريتشارد فاينمان – الفيزيائي الشهير، والحاصل على جائزة نوبل سنة 1964: "يمكنني أن أقول باطمئنان أنه ما من أحد يفهم النظرية الكمومية"!
 Richard P. Feynman, (1965) “The Character of Physical Law”, p.129.
[8] "  في العلاقة بين الدين والعلم - 1"،
 http://www.alfalsafa.com/fi%20al%20alaka%20bayna%20al%20ilm%20wa%20addin%2001.html
[9]  "في العلاقة بين الدين والعلم - 2"،
 http://www.alfalsafa.com/fi%20al%20alaka%20bayna%20al%20ilm%20wa%20addin%2002.html