الثلاثاء، 29 يناير 2013

مستقر الشمس وسجودها: رجحان التفسير، والرد على المنكرين


مستقر الشمس وسجودها: رُجحان التفسير، والرد على المنكرين
Sun’s Settled and Prostration State: The Best Interpretation, and Answering the Deniers
عزالدين كزابر


Key Words: Stability, Steady-state, Equilibrium, Stellar Dynamics


مقدمة:
ذكرنا في الجزء الأول من هذه الدراسة "مستقر الشمس: التهافت الإعجازي أن الشمس لا يمكن أن تسقط في موضع بعينه، كأن يكون جِرم من الأجرام، فيكون لها مستقرا. والسبب كما أوضحنا، أن شرط الاستقرار أن تحافظ على كيانها، فلا تنعدم. وهذا هو الشرط الذاتي بالشمس عينها. وهو شرط غير ممكن التحقق مع سقوط الشمس في أي جرم أعظم منها، لأن انهيارها وتفككها وزوالها داخله سيكون أمراً حتمياً إذا هوت فيه، فأين ذلك من معنى المستقر؟! والمستقر – كما هو معلوم - هو محل الاستقرار أو الدوام أو الحياة كما في قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ"(الأنعام:98)، وقوله سبحانه "وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"(البقرة:36). ومما يدعم ذلك أيضاً قول الله تعالى لموسى عليه السلام: "انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا"(الأعراف:143) أي أن الاستقرار يتنافى مع الاندكاك، وأن المُنْدكَ لا يوصف بالاستقرار. وكذلك الشمس إذا هوت في شيء آخر – كالثقوب السوداء مثلاً – لا يكون ذلك لها استقرارا. أما أن تقف الشمس ساكنة بلا حراك، فهذا خرق لناموسها الذي خلقها الله تعالى عليه بلا موجب له، ولا يستقيم مع دوام طلوعها على الناس لا يستنكرون منها شيء، بعد عودتها مراراً من ذلك المستقر، على نحو ما سنرى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رأينا في تلك الدراسة الأولى كيف أن تعيين موضع بعينه – كما فُهم خطاً من معنى أوج حركة الشمس Solar Apex الذي هو اتجاه وليس موضع، لا يمكن – بالتحليل اللُّغوي والفلكي- أن يكون هو مستقر الشمس الذي قال الله تعالى في شأنه  "والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38)، وذلك حسبما زعم معظم من قرأنا له من المعاصرين المشتغلين بالإعجاز العلمي في القرآن، وتناول المسألة بالدعاية الحماسية، المفتقرة إلى التحقيق العلمي الجاد.
وبخلاف تهافت الزعم بأن أوج الشمس هو التفسير العلمي لمستقر الشمس، وعدم مناعته ضد سريع النقد الذي تناولناه به، فنجد أن هذا التفسير قد تم في إعراضِ تام عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور بحديث سجود الشمس وطلوعها من مغربها، وذلك فيما تناوله الحديث من علاقة المستقر بالاستئذان الدائم، وانتقال الشمس بين حالين؛ طلوعها من المشرق ثم طلوعها في النهاية من المغرب. والنتيجة أن هذا الإعراض عن الحديث النبوي يخدم غرض المنكرين للحديث وضرورته لتفسير قول الله تعالى "والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38)، ومن ثم يخدش هذا التفسير - الذي دحضناه - صحة عدد كبير من روايات هذا الحديث، المشهود له بالصحة، والتواتر، وقوة التآلف مع آي من القرآن المجيد. ثم أن حديث "سجود /مستقر الشمس" يرتبط روايةً وتعليلاً بـ "طلوع الشمس من مغربها"، وقد أتى بصددها عدد آخر من روايات الحديث. ويطالها الخدش أيضا

حديث سجود الشمس وطلوعها من مغربها:
إذا استقرأنا أقوال المفسرين بالمأثور، نجدهم يستشهدون لـتفسير "مستقر الشمس" في قوله تعالى "والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38) بالحديث المروي في الصحيحين. والذي جاءت رواياته في صحيح البخاري كالآتي:
1- "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: [أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم }]"
2- "عن أبي ذر قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فلما غربت الشمس "قال: يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه قال قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب تستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ثم قرأ ذلك مستقر لها ".
3- "عن أبي ذر رضي الله عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس [فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم }]"
وجاءت روايات نفس الحديث في صحيح مسلم كما يلي:
1- "عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال يوما: أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم، قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون متى ذاكم ذاك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا }] ".
2- "عن أبي ذر قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فلما غابت الشمس، [قال: يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه قال قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها] قال: ثم قرأ - في قراءة عبد الله - : وذلك مستقر لها]".
هذا ... وقد وجدنا جدالاً واسعاً عند المفسرين المعاصرين حول صحة حديث "سجود الشمس"، ومن بين ما وقفنا عليه في ذلك، وجاء في مجلة المنار:(1):
[قد استشكله العلماء (يقصد حديث أبي ذر السابق) من الجهتين اللتين تقدم ذكرهما (يقصد في المقال الثامن من نفس المجلد) وكان استشكالهم مخالفته لما تقرر في علم الهيئة أقوى وأجوبتهم عنها أضعف. وقد كان جماهير علماء المسلمين حتى غير الناظرين في علم الهيئة الفلكية يعلمون أن نور القمر مستمد من نور الشمس، وعلماء المنطق منهم يمثلون بهذا للحدس المنطقي الذي هو أحد اليقينيات الستة، وكانوا يعلمون أيضًا أن سبب خسوفه حيلولة الأرض بينه و بين الشمس، ويمثلون بذلك للقضية الوقتية في المنطق أيضًا. وقال الغزالي: إن من أدلة كروية الأرض ظهور ظلها في القمر عند خسوفه مستديرًا، وإن هذا من القطعيات. فرؤية القمر بعد غروب الشمس دليل حسي على وجود الشمس وراء الأفق التي تتوارى عنه مقابلة للقمر تلقى نورها عليه. ولم يكن علم الهيئة وصل في عهدهم إلى ما وصل إليه الآن، ولا علم الجغرافية أيضًا. ولا كان الناس في عصرهم يطوفون حول الأرض بطيارتهم وغيرها، فيرون بأعينهم مصداق أدلة ثبات الشمس في فلكها. أفليس من الجناية على الإسلام أن تحكم مجلة الأزهر على من يقول أن مضمون الحديث مخالف للحس، بأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؟!]
ويتضح من هذه العبارة أن صاحبها يدين اعتراض الأزهر على إبطال الحديث، ويستقوي بأن أدلة الحس يقينية، وتقطع بما ذهب إليه.
وقد استشكل شهاب الدين الألوسي(2) على الحديث في محاولة فهمه وقال: [الأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت العرش، سواء قيل أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد، أم قيل أنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع. فقد صرح إمام الحرمين – يقصد أبو المعالي الجويني، شيخ أبو حامد الغزالي- وغيره، بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر ما عدا عند خط الاستواء. وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب. وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية، فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار، على ما فصل في موضعه . والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها ، وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها ، بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره. وأيضًا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش؟! بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلاً . وكذا كونها تحت العرش دائمًا، بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه، كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته. وقد سَألت كثيرًا من أجِلّه المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان ، فلم اُوَفّق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل.]
وانتقد "محمد رشيد رضا" الألوسي بشدة على ما ذهب إليه وقال في شأنه أنه(3): [استنبط له حلاًّ غريبًا بعد مقدمات مؤلفة من خرافات كثيرة أغرب منه ، خلاصته أن الشمس لها نفس عاقلة مدركة كروح الإنسان ، وأن هذه النفس هي التي تصعد فتسجد تحت العرش، ويبقى جسم الشمس المضيء على ما يراه الناس . ولم أره تجرد من عقله واستقلاله العلمي وأثبت عدة خرافات خلط فيها بين تخيلات الفلاسفة والصوفية والمبتدعة كما فعل في هذه المسألة.]

نقول:
إن أي حديث يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استصوب علماء الحديث الثقات صحة سنده، لا بد وأن يُقدَّم فيه صحة الحديث على ضعفه، ما أمكن ذلك، وذلك إذا استشكل المسلم فَهْمَ متنه. وعلى المسلم عدم رد الحديث والقطع ببطلانه لمحض الاستشكال، ولكن يكتفي بعدم القدرة على إدراجه ضمن معقول المتن في إطار ثقافته. إذ ربما يأتي في المتن غرابة بسبب من عدم تمام العلم بالمسألة، أو لغلبة الأُلفة الثقافية للمفسر والمغايرة لمقصود الحديث إذا كان صحيحاً. ولو رفض الإنسان معقولية كل شيءٍ لاستشكال في فهمه، ما علم الإنسان شيئاً، ولأغلق طريق العلم منذ أن وطأت قدماه الأرض. ويستوي في ذلك ما خلق الله تعالى من شيء، وما أنزله تعالى وأوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم به. فمعلومٌ أن الظواهر الطبيعية المُسَمّاة بالكمومية Quantum Phenomena من أشكل ما تحير فيه الفيزيائيون لأكثر من مئة عام حتى الآن، حتى عدُّوا من لم ينبهر بإشكالاتها بأنه لم يفهمها! فهل أدّى ذلك إلى نبذ هذه الظواهر من الوجود؟! .. أو من العلم المُدوَّن؟
وإشكال الإشكال أن النابذين لبعض الأحاديث التي قد تصح، يَخلطون بين عدم الفهم الناتج عن عدم العلم، وبين كون الحديث مُفترى، فيحكمون على الأول بحكم الثاني رغم عدم اكتمال نصاب أدلة النفي! وهم في ذلك يُضمرون في أنفسهم – من حيث لا يصرحون- "تمام العلم"، وهذا ما لا يدعيه عالم.
هذا، ومن أحدث ما سمعنا في رد هذا الحديث، رغم قوة سنده وتواتره، وتآلفه في آي القرآن المجيد في معنى "مستقر الشمس"، وفي بيان آية من آيات الله تعالى التي أشار إليها القرآن من بين العلامات العشر الكبرى لقيام الساعة، ونقصد: طلوع الشمس من مغربها، كان عدنان إبراهيم، وذلك عندما قال:




عدنان إبراهيم ورده لحديث سجود الشمس

وباستصحاب هذا التحليل المبدئي، فسنرى أن حديث الشمس الذي نحن بصدده يمثل حالة نموذجية لإشكال جلي من هذا النوع الأول، أي: الناتج عن عدم الإحاطة، وقد تحكّم مَنْ نبذه بأنه من النوع الثاني، ويستوي في ذلك زعمه أو تصريحه أو تعريضه بالحديث، حيث مآلها جميعاً إلى قصده بأن الحديث مُفترى. وهو ما قد يُدخل صاحبها – بدرجة ما- في قول الله تعالى "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ"(يونس:39).
ويجب الاعتراف بأن في الفهم السريع للحديث إشكالاً؛ موجزه: تعارض ذهاب الشمس بجِرمها للسجود تحت العرش مع كونها "دائبة"، وذلك "نقلاً" كما في قوله تعالى "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ"(إبراهيم:33)، ومضيئة شطر الأرض على الدوام "حساً"؛ بما نعلمه الآن من تعلق الكواكب – ومنهم الأرض- بها، وطوافانهم حولها. ثم ما نعلمه من حتمية اختلال النظام الشمسي إذا ذهبت عنه الشمس بجرمها العظيم ولو لبرهة من الزمن، أو ما كان يعلمه السابقون من القرون المتأخرة في الإسلام من دوام طلوع الشمس على بلدان متتابعة مع غروبها على بعضهم في ذات الوقت.
الرد على المتعجلين برد الحديث واستنكاره(4):
لنخرج عن حبكات الفكر إلى سبحات الخيال الأدبي، رغم أنهما غير منفصلان في تَمَثُّل الحقيقة إذا كان مصدرهما صادق، ولنقرأ هذه القصة معاً:

قصة الغلام وأمه وأبيه الصياد
ربتت يدُ الأم الحنون على طفلها، ... غير أنه شارد عنها، ... عيناه تلاحقان أباه، ... الذي ما أن يتشقق الليل عن نهار، ... حتى يقوم متأهباً، .... ويفعل أشياءاً، ... ثم يخرج من بابٍ، ... ويغيب طويلاً، ... وفي الغد، وغد الغد، مثل ذلك، ... فما هذا الذي يحدث، وأين يغيب هذا الرجل المُجِدْ؟! ... يتساءل الطفل في نفسه.
انتبهت الأم لذهول طفلها أمام هذا المشهد المتتابع يوماً بعد يوم، ... فقالت له ذات يوم بعد أن تنسمت فيه أمارات الفهم: ... أتدري أين يذهب أبوك؟ ... فحملق في وجهها يستنطقها! ... قالت: إنه يذهب يسأل الله رزقنا، ويعود بالسمك الذي تحبه، ويذهب ثانية وثالثة، وسيظل يذهب حتى يأتي اليوم الذي يعود لنا بحوت كبير، نبيعه ونغتني كثيراً، وعندها، سننتقل من هذا الكوخ، ونسكن في قصر كبير. .... تنهد الطفل عميقاً وهو في حجر أمه، وكأنّ الكوخ قد أضاء غبشَه نورٌ ... كالذي خارجه، .... ما أجمل أن يفهم الإنسان، .... طفلاً كان أو شيخاً بلا أسنان.
فلما شب الطفل يخطو ويمشي، ... راقب أباه كعادته كل صباح، ... وأتبعه البصر من باب الكوخ، وخرج وراءه بخطوات قليلة ...  يمط رقبته من خلف الجدار، .... فرأى ما لم يحتسبه، .... رأى أباه يجلس بعيداً في كوخ آخر ومعه رجال، ... وفي أيدهم أشياء لا يعلم ما هي!
اندهش الطفل .... وظن أن أباه سيرحل بعيداً ليأتي بالسمك كما أخبرته أمه ... !!... ولكنه لم يبرح ذلك المكان، ... وعاود الطفل النظر يراقب أباه حتى آخر النهار ..  فلم يجده يبرحه، ... وتكرر ذلك فيما وراءه من أيام.
ذهل الطفل، ودارت عيناه مع الأفكار! هل كانت أمه تكذب عليّ، ألم تقل له إن أباك يذهب يسأل ربه الرزق، فيعطيه السمك الذي نأكله، إن أباه لم يبرح المكان، إنه خلف الكوخ، ويتساءل الطفل في نفسه: لماذا لم تقل أمي الحقيقة. هل كانت تسرد لي الحواديت؟! هل كانت تضحك عليّ؟!
دارت الأيام والطفل يرمق أمَّه بنظرات غريبات، ... لا يفهم لماذا يحدث ما يحدث؟ ... ولماذا قالت أمه ما قالت؟ ... وماذا يفعل أبوه؟ ... وأشياءَ أخرى كثيرة؟
وشب الطفل وصار غلاماً، ولم تزل طلاسم الأفكار تزاحم هوى اللعب مع الأنداد. وذات صباح ناداه أبوه، ... أن قم يا بُني... قم لتصحبني، .... أين يا أبي؟ ..... ستعلم يا بني.
تداخلت المشاعر، .. من ارتباك وسعادة، .. واستغراب ودهشة، .. وتردد ونشوة، .. وسار الغلام وراء أبيه، .... حتى دخلا الكوخ الآخر، الذي يعلم الغلام شأنه، .. وكان به رجال من اصحاب أبيه. فإذ بأبيه والرجال جميعاً يحملون لفائف كبيرة من حبالٍ يشدُّ بعضها بعضا، .. ثم مشوا بها مسيرة طويلة، .. حتى وصلا إلى شاطئ البحر. .. فإذا بكوخ آخر يعلو المياه، سمّاه أبوه سفينة، ... فقال لابنه: .. اركب معنا ولا تفارقني!
ما هذا؟! - إن السفينة تجري في المياه، .. والأسماك تتقاذفها الأمواج، .. والرجال ينشرون ويجمعون الشباك، .. وأبو الغلام معهم تعلوه الهمة والجد والنشاط، .. والشباك تمتلئ، .. ثم تنهمر منها الأسماك، .. تتراقص هنا وهناك، .. يا لها من مشهدٍ خلاب، .. أجمل من اللعب مع الأصحاب.
وفي نهاية الرحلة، وقف الغلام ينظر إلى الشمس تعانق البحر، وقد انسدل حاجباه يحدث نفسه: هذا هو إذاً. .. هذا ما قالته لي أمي منذ زمن. .. إنه المكان الذي يذهب إليه أبي ليأتي بالرزق من الله، .. إنه البحر. نعم، إن السمك فيه كثير، .. هذا هو إذاً ما يحدث .. وقد أتعبني جهلي به، .. قاتل الله الجهل ... يعاتب الغلام نفسه، ثم يقول: "يالغبائي، يالحماقتي"، .. كذبَّت نفسي الجاهلة كلام أمي الحنون، .. أرادت أن تُفهمني، .. فكنت قاصراً! .. الآن فهمت؛ كان أبي يخرج كل يوم يُجَهِّز الشباك مع أصحابه الصيادين، .. ثم يأتون البحر حيث يأتي السمك في مواقيت بعينها، .. فيسألون الله الرزق منها، .. فيغرقهم به، ... صدقت أمي .. صدقت. ....وسبق جهلي علمي، .. وحماقتي حلمي، .. أللهم اغفر لي .. ولكن .... بقى شيء!!!  ... إنها السمكة الكبيرة جداً التي سمَّتها أمي الحوت، .... تُرى هل سيصطادها أبي وننتقل إلى قصر كبير. .... ؟!
....
هكذا إذاً لم يكن يفهم الطفل حديث أمه أوّل الأمر في شأن ذهاب أبيه للصيد، مثلما لم نكن نفهم نحن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذهاب الشمس إلى مستقرها!!  ... وكنا نظن أن الشمس تغرب لمستقرها مع كل غروب لها، كما ظن الطفل أن أباه يذهب للصيد كل يوم. فأخطأنا كما أخطأ، وربما أننا فهمنا كما فهم. أما من كذَّب حديث النبي، فمثل ظنونه ظنون الغلام، وشكه في حديث أمه. غير أنه ندم عليه، وسيفعلون.
...
ويحدُث أن يسبق نقصان الفهم صوابه، وهوى النتائج أسبابَها. فهذا عمر بن الخطاب يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، ورَضِي عن صحابته جميعا، يقول عمر يوم صلح الحديبية، يوم اصطلح المسلمون مع مشركي مكة على الرجوع للمدينة بلا طواف بالبيت في ذلك العام: [ألست نبي الله حقا، قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال عمر: فلم نعط الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست اعصيه وهو ناصري. قال عمر: او لست كنت تحدثنا انا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، (ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمر) فأخبرتك انا نأتيه العام؟ قال عمر: لا. قال صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به.] ... ومثل ذلك في حديث الشمس، فقوله صلى الله عليه وسلم (أتدرون أين تذهب الشمس) لا يلزم عنه بالضرورة عين الغروب، مثلما أن قوله للمسلمين (أنهم سيأتون البين ويطوفون به) لم يلزم عنه أن ذلك في نفس العام ، بل عام آخر. فكذلك ذهاب الشمس، لا يلزم عن ذهابها الذي أخبر عنه أنه الغروب اليومي، فقد يكون ذهاباً آخر. وهذا ما رمزنا إليه في قصة الغلام في قول أمه له: أتدري أين يذهب أبوك؟ - وما كان لها أن تحكي له عن ذهاب أبيه، وأبوه جالس بالبيت. فاقتضت الحكم أن تقول له ذلك في غياب أبيه. وما كان الطفل مميز بين ذهاب وذهاب. ثم أن طلوع الشمس من مغربها لا يلزم عنه أن عودتها من المستقر ستكون صباح تلك الليلة التي ظُن أنها ذاهبة فيها. فكلها موافقات ظنها السامعون لعدم علمهم الفرق بين غروب الشمس الذي يماثل ذهاب الأب يصنع شبكته خلف الدار، وذهاب الشمس إلى المستقر الذي يماثل ذهاب الصياد إلى البحر. وهذا الذهاب البعيد للشمس هو ما نعمد في هذه الدراسة إلى فهمه ليكون المقصود في الحديث، مثلما كان الذهاب إلى البحر هو المقصود في حديث أم الغلام.

مقاربات لتجلية فهم حديث سجود الشمس:

1- لا ينبغي معالجة الحديث على انفراد، بل يجب ربطه بما جاء في كتاب الله تعالى أولاً، ثم ما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً، وعن كل المتعلقات المرتبطة.
2- الانتباه إلى أن تضعيف الحديث لعلة ما، تضعيف عام لتلك العلة حيثما ترد، في القرأن أو السُنّة.
3- مراعاة جواز صحة أصل الحديث، وأن روايته قد تكون بلغة الراوي، على ما قد يكون اعتراه تبديل بعض الألفاظ، أو إسقاطها أو إضافتها بغرض التفسير، والتي إن حدثت، فغالباً ما تكون حسب فهم الراوي، والمرتبط بالثقافة الشائعة في عصره.
4- مراعاة التمييز بين الجري الحقيقي للشمس بجِرمها، والحركة الظاهرة لها في السماء، والناتجة عن دوران الأرض حول محورها. وهل قصد الحديث جرياً حقيقيا، وذلك ما تمليه اللغة والسياق، أم محض ظهور الشمس في السماء كما هي مرئية على الأرض كما يمليه الفهم السريع، وهذا يتضح أكثر وأكثر بجعل القرآن مرجع الفهم أولاً، ثم الوقائع المادية الكاشفة لمزيد من التفصيلات العينية لموضوع الدراسة؛ أي "الشمس" في مسألتنا هنا، ثانياً. ومن ثم:
5- مراعاة عدم إهمال الظواهر الطبيعية المحققة في موضوع الحديث. فما كان من حديث عن الشمس، وجب استحضار ما علمه الإنسان عنها علماً جازما أو راجحاً، كلٌّ بقدره.
نقول: إذا راعينا الاعتبارات السابقة، فلا بد أن نصل إلى أنه:
1- إذا تم رد الحديث لما ورد فيه من أن الشمس تسجد، سواء لاستنكار مبدأ السجود بسبب عدم تصوره، أو لعدم القدرة على الجمع بين سجود الشمس ودوام حركتها، فسيكون رفضاً ضمنياً، أو تشكيكاً، لكل خبر ورد فيه ذكر سجود للشمس أو ما يُلحَق بها من جنسها، على ما تيقّن للإنسان من علم لاحق؛ أي: "النجوم"، أو حتى عموم الأجرام. ومن ذلك قول الله تعالى "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَ.."(الحج:18)، وقوله تعالى "وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ"(الرحمن:6)، ويلحق به قوله تعالى "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ..."(الإسراء:44)، وقوله تعالى "كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ"(النور:41). هذا بالرغم من أن الله تعالى قد يسر علينا قبول هذه الحقائق، الغائب عنّا كثير من أسرارها، بقوله تعالى "وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ"(النور:41).ويُعد الرفض مشكلة كبرى في حق الرافض! لأن تكذيبه أو تشكيكه سيطال أثره هذه الآيات الصادقات من حيث ينتبه أو لا ينتبه! 
2- إذا تم رد الحديث لما يتبادر إلى الذهن أو الوهم من انتقال حقيقي للشمس من موضعها في قلب مجرة درب التبانة - التي هي عليه الآن - إلى مسامتة العرش والسجود (الشبيه أو غير الشبيه بالسجود الإنساني) تحته مباشرة، فهو رفض الأصل لوجه تأويلي واحد - شديد الضعف - وكان يناسب ثقافة قديمة، وقد قيد به صاحبه معنى الحديث من عند نفسه. هذا رغم أن الوجوه التفسيرية منفتحة بقدر ما ينفتح من العلم الصحيح أبواب بالمسألة، تعمل على مزيد من الإحاطة بها.
3- إذا تم رد الحديث لتصور تعارض بين سجود مؤقت للشمس عقب غروبها، باعتبار أنه وقت لا يزول لدوام غروب وطلوع الشمس بلا انقطاع عن مواقع متتابعة على الأرض، فهو رفض ينال قول الله تعالى "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ"(الرحمن:29) بشكل من الأشكال، باعتبار أن اليوم – والذي علامته طلوع الشمس- ظاهرة مستمرة لا تنقطع عن الأرض. ولما كان المعنى الراجح لهذه الآية الكريمة أنَّ شأن الله تعالى لا ينتهي مثلما لا ينتهي دوام الأيام واتصال بقائها، والتي تتوالي مع كل أنة من أنات الزمان، فكذلك سجود الشمس عند غروبها، هذا إن كان ذلك هو المعنى الفريد للحديث! غير أنه ربما لا يكون الأمر كذلك بالضرورة على سجود الشمس في مستقرها على ما سيتبين! رغم أن الشمس قد تكون مُسبحة دوماً تسبيحاً عاماً، إضافة إلى سجود خاص في المستقر، مثلما أن المسلم مكلف بسجود عام متجدد خمس مرات كل يوم إضافة إلى سجودات خاصة بالجُمَع والأعياد والحج والعمرة.
4- إذا تم رد الحديث لاستعصاء تصور مدلول الحديث – من ذهاب للسجود تحت العرش - في إطار طلوع الشمس وغروبها اليومي على الأرض، فليس هناك ما يمنع من أن الحديث لا يعالج الحركة الظاهرة للشمس كما أملتها الثقافة القديمة والبسيطة، بل يعالج ذهاباً حقيقياً، وجرياً موضوعياً للشمس بعيداً عن تبعات دوران الأرض حول نفسها، وأن سياق الحديث قد اشتبك مع الغروب عَرَضَاً، لعلة مخصوصة تناسب إطار الدرس التعليمي للنبي صلى الله عليه وسلم للأمة – وكما أوردناه في قصة الغلام وأمه وأبيه الصياد أعلى - بحيث لا يستنكره ناقل الحديث، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن تمييز الناس إلى ثلاث فئات: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير (وهذه هي الفئة الأولى)، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا (وهذه هي الفئة الثانية التي حفظت لنا علماً ننتفع به الآن وإن لم تنتفع هي به لاستعصائه عليها)، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ (وهذه هي الفئة الثالثة التي لم تنتفع بالعلم، ولم تحفظ العلم لغيرها، بل أنكرته أو أضاعته)، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم (أي: الفئتان الأولى والثانية)، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (الفئة الثالثة)"(رواه البخاري). ومثال لهذا الذي استعصى على الفئة الأولى، لعدم اكتمال نصابه بعد، وأنكرته الفئة الثالثة لظنها بكمال العلم في نفسها بما يمكنها به نبذ ما لا تستسيغه - هو مسألة سجود الشمس - والتي يمكن فهمها على النحو التالي:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم عن ذهاب حقيقي للشمس للسجود الخاص بها ("صلاتها وتسبيحها")، وهذا يناسبه أن تكون الشمس غير مرئية، إذ لا مفر من أن يستنكر السامع حكاية النبي عن ذهاب الشمس في وقت تكون الشمس أمام عينيه، لذا ناسب الحكمة أن يتوحد ذهابها الظاهر مع ذهابها الحقيقي. ويكون البعيد هو المقصود، وإن لم يعيه السامع والراوي وظل عليه مشتبهاً، ومن ماثله في الثقافة (وهذه هي الفئة الأولى في الحديث السابق)، لأن رسالة الحديث على تفصيلها ستُفهم لاحقاً (من الفئة الثانية)، وإن كان مضمونها يشمل الجميع، وهذا هو الحال الذي نُرجِّحه مع الآيات المتشابهات، وخاصة ما كان منها يتعلق بالأمور الكونية، والتي أُمر المؤمنون باعتقادها رغم اشتباهها عليهم.
5- أن عبارة " فقال يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس" هي لفظ الراوي (أبو نعيم)، وأن صحيحها "أين تذهب الشمس" كما نقلتها رواية محمد بن يوسف. ومما يؤكد ذلك أنها وردت في الروايات الخمس التي استقصيناها من الصحيحين على الصورة "أين تذهب"، وفي رواية واحدة فقط وردت "أين تغرب". وربما أن الرواي قد أتى بلفظ "أين تغرب" وهو يقصد الذهاب حسبما فهم هو من الحديث، وأنه أتى بلفظه هو دون ما كان عليه النص الأصلى لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وربما أن "تغرب" كانت عند الراوي بنفس معنى "تذهب"، لذا لم يجد غرابة في ترادفهما، كما تقول العرب (غرب الجبل وغاب، إذا ما أبعدوا عنهم حتى اختفى عنهم)، وكما جاء في لسان العرب: (الغَرْبُ الذهابُ والتَّنَحِّي).
6- إذا تم رد الحديث لتصور أن "تحت العرش" لا تعني إلاً فوق السموات السبع وتحت العرش مباشرة كما ذكر ذلك الألوسي – في روح المعاني- حين قال: [المراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مُسَامِتاً لبعض أجزاء العرش] فهذا تحكُّم ممن يرفض الحديث، لقيام رفضه على تخصيص معنى بما لا مخصص له في أصل النص. وقريباً منه من يفهم من قول الله تعالى (على لسان إبراهيم عليه السلام): "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ"(الصافات:99) بأنه ذاهب إلى لقاء ربه لقاءاً عيانياً!. وإذا كان الخبر يتكلم عن ذهاب الشمس، فلا بد أن يذكر لها موضعاً تذهب إليه، وإذا كان تصور الموضع العيني للسامع القريب مُشكل، عُمم له الكلام، ليستسيغه، وسيفهمه مَنْ وراءه - إذا جاء أجل ظهور المعنى - بما يكشفه الله تعالى له من قرائن. ومن المواطن الشبيهة التي نتعرض لها أن يسأل بدوي عن موضع جبال الجليد – ولا خبرة له بالجغرافيا – فنُجيبه بأنها وراء البحر المحيط. أو يسأل طالب صغير عن موضع الإلكترونات، فنجيبه بأنها تحت السطح المرئي للمادة، والمعنى الفريد في كلا هذين السؤالين أخص من التعميم الوارد في إجاباتها. وكذلك هنا في حالة الشمس. إذ أن "تحت العرش" عام – الكون بأكمله - أريد منه خاص. ولن يُعْلَم هذا الخاص إلا بالقرائن. وقد ناسب ذكر هذا العام "تحت العرش" غرض الذهاب، أي السجود. فكان تعميماً يُسَوّغ المعنى للسامع، ويناسب غرض الذهاب، ويُعلًّق فيه خاص المعنى على ما يظهر لاحقاً من قرائن.
7- إذا كان رد الحديث بسبب ما جاء في فهم المفسرين من ثقافة قديمة، علمنا لاحقاً أنها تبدلت بما كشفه الله تعالى من معارف جديدة، فالسالك هذا المسلك – إن كان على منهج علمي مُطَّرِد - عليه أن يرد أيضاً الآيات التي فُهمت بثقافة قديمة لم يعد لها من العلم المعتبر نصيب، وهو منهج معهود لغير المؤمنين بالقرآن، لأنهم يتعللون بما يوافق أغراضهم، حتى وهم يعلمون أن هذه العلل المفهومية من أخطاء البشر، ولا علاقة لمعاني القرآن بها. وأمثلة ذلك ما قيل(5) في معنى قول الله تعالى "وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ"(الانفطار:2): من أنها (تساقطت على وجه الأرض). وهذا التفسير مردود بكل المعايير. ولو أراد أحدٌ ممن ينكر القرآن ويبحث عن ذريعة يُبرِّر به جُرأته، لكفاه هذا التفسير لرد الآية، ولارتكس من حيث زعم أن مراده الحق. وأمثلة هذه التفسيرات المردودة الآن من الكثرة البالغة، مما لو اعتمدها أحدٌ على أنها المرادة من عين ما تفسره، لنفض يده من الدين، كل الدين. بل الحق أن الدين هو النافض يده من تكلُّس قد استحكم على بعض الأفهام. لا تستفهم إلا في إطار ثقافتها، فإن امتنع عندها الفهم، قدمت الإنكار أو التعطيل!

مقاربات في الفروق اللغوية:

1- بين يقِر ويستقِر، ومن ثم؛ بين القرار والمستَقر:
2- بين الفلك والمستَقر:
3- بين السباحة والجريان:
4- بين يجري إلى، ويجري لـ :
نعمد الآن إلى تفصيل هذه الفروق:

1-  بين يقِر ويستقِر، ومن ثم؛ بين القرار والمستَقر:

يقر: يسكن في قرار، فلا ينزاح عنه، كالماء يسكن في وعائه. و"القار": لا يعهد له بقاء إلا في محل قراره، بمعنى التحيُّزْ الدائم في مقره، كالماء الساكن في قعر القارورة، ومنه جاء اسمها. ومنه سُمِّيت اليابسة المتصلة على الأرض "القارة" continent لجمودها المعهود على مدار الزمان كما يراه الإنسان. كما سُمّيَ "القرار" decision الذي يقرّه أصحابه لنيتهم في عدم الرجوع عنه. وسُمِّي المَقَرْ headquarter كمركز رئيسي لحكومة أو شركة لكونه الأصل لها، الذي لا أصل أرسخ منه، وهكذا.
أما (استقر)، فهو مَزِيد عن (قرّ) بالـ (أ، س، ت)، ومعهودها في لغة العرب (طلب حصول الشيء) أي طلب حصول القرار، ولأنه قد ينزاح عنه سُمِّي مستقرا. فيكون الاستقرار طلب المستقر، والمستقر مطلوب غير مأمون، وإلا كان قراراً. وعلى ذلك يكون:
 الاستقرار هو: [طلب (القرار) مع دوام وجود عوارض تحول دون تمام الخلوص إليه على مدار الزمن].
ويكون المستَقر هو: [(القرار) المطلوب الخلوص إليه، مع وجود عوارض تحول دون تمام ذلك].
ونسبة المستقِر إلى المستَقر، كنسبة القار إلى القرار.
ويمكن النظر للفرق بين القار والمستقِر (ومثلهما: القرار والمستَقر) من وجهتين، كلاهما صحيح، كما أن مجموعهما صحيح.
الأول (وجود العوارض ولو لحظياً): أن القار لا يبرح قراره (الذي هو قار فيه) لانعدام الدافع لذلك. أما المستَقر فالدافع قائم لكنه يغالبه بالتمسك بالمُستَقر، وإلا تركه لمستقر غيره.
الثاني (المُكث الزمني): أن القار لا يبرح قراره لزمن ممتد، فيَقِر فيه لأمد. أما المستقِر فلا يلبث أن يتزحزح أو يتقلب فيه مع الزمن، حتى وإن قرّ فيه لبرهة عابرة أو فترة زمنية قصيرة غير مأمونة. أي أنه يتعمد المكث فيه لفترة غير محددة، وإلا لم يعد له مستَقَرّا فضلاً عن أن يكون قراراً.
وبناء على هذا التحليل يمكن فهم الفرق بين كون الأرض قرارا للإنسان في قول الله تعالى "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا"(غافر:64)، وبين أن فيها مستقراً للإنسان في قول الله تعالى "وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"(البقرة:36). فالأرض بجملتها قرار للإنسان، بمعنى أنه لن يتركها ويبقى له دوام وجود في غيرها، وفي هذا تعريج سلبي على طموحات انتقال الإنسان إلى كواكب أخرى صالحة للحياة، إلا إذا كنا مخطئين في تحليلنا، أو أن يعم لفظ الأرض كل كوكب ثابت تحت أقدام الإنسان ويجد فيه أسباب البقاء. أما نواحي الأرض المختلفة، ففيها مستقر للإنسان حيثما يتيسر له من أسباب الحياة، ولهذا يتنقل الإنسان بين هذه المستقرات بلا قطع لأسباب البقاء مثلما ينقطع عنه في حال تركه للأرض الثابتة.
ويفيدنا هذا التحليل أيضاً في فهم أن صفة القرار للأرض متعلقة بالإنسان، ومثله الأحياء والجمادات وكل ما يطلب قراراً له بحكم خلقته التي خلق عليها، وليست متعلقة بذات الجرم من حيث السكون والحركة. ولو كان ذلك هو المقصود لجاء وصف الأرض بأنها "قارة" وليست قرارا. فالقار هو القار بذاته نسبة إلى محيطه وحامله كالقارات على الأرض، وكالجنين في بطن أمه كما قال تعالى "ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ"(المؤمنون:13)، وكالماء في القارورة. أما القرار فهو بالنسبة لما يحمله هو كالأرض لكل ما عليها، وكرحم الأم لجنينها، وكالقارورة لما تحمله من مائع. ومن ثم لا يمتنع أن يكون الشيء قرارا ويتحرك بنفسه لأسباب خاصة به؛ كالأم تحمل الجنين في بطنها، والقارورة وفيها الماء، والأرض تحمل أثقالها. وعلى ذلك يكون من تعلل بقول الله تعالى "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا"(غافر:64) على أنه دليل على سكون الأرض قد أخطأ في الاستدلال.
والخلاصة: أن المستقًر يمكن لساكنه أن يذهب عنه ويعود إليه، ويكون ذهابه هو الأقل، ومكثه فيه هو الغالب والأصل. أو ينتقل لمستقر آخر، كالإنسان على الأرض يتنقل، بلا انعدام لوجوده، بخلاف القرار، حيث لا انتقال منه. وعلى ذلك، فمَنْ فهِم أن "مستقر الشمس" موضع تذهب إليه الشمس دون نزوع عنه فيما بعد، فقد جعل هذا الموضع لها قراراً، ولأن الله تعالى سماه مستقراً وليس قراراً فيكون هذا الفهم غير صحيح. ويكون المستقر الذي تجري الشمس له يشبه مستقرات الإنسان الفرد على الأرض؛ وهو يتنقل من أحدها إلى الآخر. ولهذا جاء نكرة، ولم يضف إلى الشمس؛ أي لم تأتِ الآية على الصورة "والشمس تجري لمستقرها"، لأنه عندئذ يتعين وينفرد. ولأنه نكرة يصبح غير متعين، أي متعدد، غير أن تلك المستقرات يجمعها فضيلة واحدة وهي أنها مواضع تحقق طلب الشمس الاستقرار فيها دون سواها من مواضع.

2- الفلك والمستَقر:

الفلك: معلوم أن معاني الألفاظ تتبدل مع تغير الثقافات، وأن اللفظ الواحد يكون له من المعني في أصل اللغة ما يتم تجاوزه في العلوم المختلفة لمعاني خاصة. وقد يشتهر المعنى الخاص أكثر من أصل المعنى حتى يسود عليه، وينسى الناس الأصل ويلتصقوا بما تبدل به، أو خص له من معنى. وهذا التباس عظيم في التفسير لمن ينكص عن اقتفاء أصول المعاني، ولا يقف على حدودها.
والأمثلة على هذا المسلك الخطر كثيرة، وسبق أن استعرضنا منها ما جاء في تفسير ("أقطار") في قوله تعالى "إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا"(الرحمن:33)، وعرضنا لمن قال في معناها أنها الأقطار الهندسية، وقد بنى على ذلك أخطاء علمية شنيعة، وفنَّدنا هذا المعنى في دراسة "خطيئة لُغوية وانتكاسة علمية".
وهنا ..، وفي محاولة التقصي عن معنى "فلك"، وجدنا أن نفس الإشكال يتكرر، وإن كان بصورة خفية، لا يرى فيها المتسرع من إشكال، غير أن الإشكال يتفاقم وينتج عنه تشويشٌ، يضيع معه رهافة الفرق بين معنى السباحة في الفلك ومعنى الجريان! وهذا ما حدا بالمفسرين أن يجعلوهما من المترادفات.

وما نقصده بالخطأ الذي شاع للفظ "الفلك"، على خلاف معناه الأصلي، أن المعنى الأصلي للفلك في قوله تعالى "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"(الأنبياء:33) هو المجرَى المستدير الذي يسبح فيه السابح، أي النطاق المنغلق على نفسه كما هي فلكة المغزل، شكل (1)، وكما هو فلكة عمود الخيمة. وفي المعاجم والتفاسير القديمة نجدهم يشبهون هذا الفلك بالطوق، فنجد في لسان العرب: [والمنجمون يقولون سبعة أَطْواقٍ دون السماء قد رُكِّبَت فيها النجوم السبعة (يقصد الكواكب)، في كل طَوْقٍ منها نجم، (ونقل عن الزجاج قوله:) كلٌّ في فلكٍ يَسْبحون؛ لكل واحد، وترتفع (أي تظهر هذه الأفلك) عما حولها. وقال أبو هلال العسكري في الفروق: "الفلك: مدار النجوم"، (يقصد: حيث تدور النجوم)]


شكل (1)
وهنا وقع للمترجمين المحدثين بعد عصر النهضة الأوربية أن أخذوا لفظي (فلك) و (مدار) وطابقوهما بمعنى orbit، والذي يجيء معناه عند أصحابه على أنه المسار الخطي المستدير وإن كان إهليجي الشكل، ويتتابع عليه المركز الهندسي للجرم السماوي، سواء كان قمر (أي: تابع) أو أرض (أي: كوكب) أو شمس (أي نجم).
فأصبح معنى (فلك) و(مدار) هو: المسار الهندسي الذي يختط الجرم عليه مسار لمركزه. وهذا التخصيص للمعنى خطأٌ كبير، ونت عنه أن جعل سباحة الجرم في فلكه معنى غير متصور على ما تحتمله اللغة، بل أصبح الجرم على مساره كحبة الخرز على سلكه الذي يسلكه. وهذا التصور الأخير يفارق معنى السباحة، التي عمادها انغمار جرم السابح في المسبوح فيه، أو احتوائه بجملته في جوفه. ومما يدعم هذا الاحتواء؛ الحرف (في)، في قوله تعالى "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"، مما لا يحتمل معناه أن يكون الفلك هو عين المسار الخطي المجرد، الذي وضعه الفلكيون لغرض التجريد الحسابي.
شكل (2)
في شكل (2) يدور القمر حول الأرض، وبالأحرى، حول مركز ثقله مع الأرض Barycenter. ويقترب القمر من الأرض حتى يكون  على مسافة 356 ألف كيلومتر، ويبتعد حتى يصل إلى 406 ألف كيلومتر. ومساره هذا – والذي يسمى مساراً إهليجيا elliptic، غير ثابت ثبوتاً مطلقاً، بل يدور أيضاً دوراناً بطيئاً، ليتم دورة كل 18.6 سنة. كما أن مستوى دوران القمر يميل على مستوى دوران الأرض حول الشمس بحوالي 5 درجات. والخلاصة أن المسار الخطي لدوران القمر حول الأرض Orbit ليس مؤهلاً ليكون هو ما أشار إليه القرآن على أنه فلك القمر، في قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"(الأنبياء:33)، وما نقترحه لمعنى "الفلك" هو أنه منطقة الدوران بكاملها، وهي التي يمثلها المنطقة الفارغة المستديرة حول الأرض بهذا الشكل، والمحدودة من جهة الأرض بذلك التل العالي، ومن الخارج بمحيط مانع للقمر من الانفلات والخروج من الفلك. ويمثل التل الداخلي ما يواجهه القمر من ممانعة من الاقتراب من الأرض، وذلك أنه في الميل إلى ذلك بفعل الجاذبية، يزداد في سرعته الدوارة، فينشأ عن تلك الزيادة قوة طرد ترده عن الأرض، ويمثلها جدار التل، وإذا تباعد القمر كثيراً يتباطأ فتنتصر الجاذبية وتعمل على منعه من الهروب وتعيد جذبه إلى الداخل، ويمثل ذلك الجدار الخارجي بالشكل. وهكذا يظل القمر في تلك المنطقة البينية، وهي التي نتعرف عليها على أنها "الفلك" الذي تكلم عنه القرآن، وأنه هو الذي يسبح فيه القمر اقتراباً وابتعاداً وميلاً وتأرجحا.

ويمكن تصور الفلك باعتباره مجرى وعائي  (سفح مجالي) لما يجري فيه، وهذا ما نراه في الفيديو الآتي:




ومن أدلتنا على أن الفلك في القرآن ليس هو عين المسار orbit الذي يجرده أهل الفلك الرياضي تجريداً هندسياً، أنه لو كان هو هو، لوجب أن يكون الجرم الذي يسبح في ذلك المسار، لا ينزع عنه ولا ينفلت منه، وإلا فقد أتى عليه من الوقت ما يكون قد فارق فيه السباحة في الفلك! ولكناا نعلم أن مسارات الأجرام ليست منغلقة على الحقيقة إلا ما ندر، بمعنى أن المسار أو المدار الهندسي الخطي الشكل، مساراً غير منغلق بالضرورة، ولو كان هو هو الفلك المقصود في القرآن لوجب أن يقتفي الجرم أثر ذلك المدار أبداً، إذا أن سباحة الجرم في الفلك تعني أنه لن يتركه، ولأنه يترك ذلك المدار orbit  بإزاحات متتالية تجعله ينحرف بدوران المدار نفسُه حول نفسِه، فوجب أن معنى الفلك ليس المسار الخطي. وإذا بطل هذا، فلم يبقَ لنا إلا البديل الثاني والأخير الذي قدمناه أعلى، ونقصد أن الفلك هو كامل نطاق الدوران، وبما يشمل ويحتوي كل المسارات الممكنة للجرم الدوار والتي تتعدل مع الزمن، ولكنها تظل في جوف الفلك. ومن هنا كان الجرم يسبح في الفلك، ولا يخرج عنه.

وما قيل عن القمر في فلكه حول الأرض، يقال مثله على فلك الأرض حول الشمس، ويقال مثله على فلك شمس حول مركز المجرة. ومن ثم يكون الفلك نطاق الدوران حتى ولو كان ثلاثي الأبعاد، كالإسورة الشفافة كما بالشكل (-أ)، وبداخلها حبة من الماس، تسبح في جوفها، دائبة في دورانها، لا تنفلت منها. ولا يزيد هذا الفلك المجسم عن كونه مجالاً فراغياً غير حاد، بل متصل في قيمه، ويتعين في الفراغ برياضيات الميكانيكا الفلكية، وربما يتمثل أفضل ما يكون بدالة فراغ احتمالية كتلك التي تصف منازل الإلكترونات حول الذرة المادية (شكل  - ب)(أحد مدارات ذرة الهيدروجين(6)). وهو الأمر الذي ربما يدفعنا لتعريف مدارت الإلكترونات orbitals في الذرات المادية على أنها تأتي في صورة أفلاك أيضاً بالمعنى القرآني.


شكل (3)

ولقائل أن يقول: إن القرآن لم يتكلم عن سباحة للأرض في فلك! فأنَّى لك تدَّعي ذلك؟!

نقول: نعم، لم نقرأ في القرآن صراحة أن الأرض تسبح في فلك، ولكن هناك تضمينات تدل على ذلك، وهي:

1- تحليل قول الله تعالى "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"(الأنبياء:33)، نجد أن لفظ " خَلَقَ " يعم ما جاء قبلها من ليل ونهار وشمس وقمر، وهذا لا خلاف عليه بالطبع، ولكن، هل تعم العبارة "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" ما قبلها بما يشمل " اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ

وإن كانت تعمها جميعاً، وهذا هو البَيِّن، فلنا أن نسأل: هل " كُلٌّ " تؤول إلى كل مذكور سبقها على انفراد، فيكون الليل يسبح في فلك، والنهار يسبح في فلك؟! أم أن الليل والنهار باعتبارهما لباسان – كما في قوله تعالى "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا"(النبأ:10)، وإن أتت بمعنى سترا - يشيران إلى لابسهما – أي الأرض - في كونها المدرجة في "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ "؟!

نقول: من غير المألوف أن تأتي السباحة من غير ذي جِرم كالليل والنهار، في عدم استقلالهما كظواهر عن الأرض، وأن تأتي فقط من مثل الشمس والقمر، وإن كنا لا نقطع بامتناعه لأن الله تعالى يصف ما شاء بما شاء، لأنه سبحانه أعلم بما خلق، مثلما وصف الليل بملاحقة النهار في قوله تعالى "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا "(الأعراف:54)، ومعلوم أنّ اللاحق والمُلاحَق يغلب عليهما أن يكون متجرِّمين، إلا أن سباحة الليل والنهار وهما ملبوسان للأرض أقرب في دلالتها على سباحة ذات الأرض، مثلما أن يرى أحدُنا - عن بُعد - قميصاً يسبح في الماء سباحة الإنسان، فلا بد وأن يستدل على أن إنساناً هو الذي يسبح ويلبس هذا القميص.

ثم أن قبول هذا المعنى لسباحة الأرض وما عليها من ليل ونهار في فلك، يدعم كون الفلك هو الوعاء المستدير الممهد والحاوي للأرض وما عليها – من ليل ونهار- في سباحتها. وذلك ما لا يتحقق لمسار خطي وهمي يشير فقط إلى اتجاه حركة الأرض في فلكها.

ولكي نقف على وصف سباحة الأرض حول الشمس، ومسارها غير الثابت ولا المنغلق، والمُحْتَوى - من ثمَّ - في  نطاق فراغي رحب، نطلع على الفيديو الآتي:



وهكذا إذاً، يترجح عندنا أن "فلك" الأرض – بالمعنى القرآني - ليس هو مسارها الخطي (المدار orbit) كما هو شائع، والمنزاح على الدوام كما رأينا أعلى في هذا الفيديو إزاحات متتابعة، بل هو الوعاء المستدير الذي يمكن للأرض أن تسبح فيه اقتراباً وابتعاداً عن الشمس، بقدر ما قدّره الله تعالى لها – ولغيرها من أجرام - من سنن الميكانيكا التي علَّم الإنسان شيئاً منها. وتكون سباحة الأرض في فلكها، كما القمر، هو انسياب حركة الأرض في مجراها ذلك، مثلما تسبح الأسماك في جداول مخصوصة لا تستطيع مغادرتها، أو تجاوزها، رغم أنها تتنقل يمنة ويسرة داخل تلك الجداول. ومثلما أن لفظ الجدول لا يتطابق لُغةً مع مسارها داخله، فكذلك "الفلك" – بالمعنى القرآني – لا يطابق المدار orbit، وإنما يحتويه كما يحتوي الجدول مسارات الأسماك.

ويقال نفس الشيء على كل فلك، فيكون فلك الشمس هو نطاق دورانها (لأن الفلك "مستدير" لغةً) والتي هي فيه دائبة السباحة، ولا تستطيع مغادرته.

المستقر: إذا كان الفلك هو نطاق ممتد منغلق دائرياً على نفسه، ولا يغادره السابح فيه، بحكم دؤوب السباحة، " وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ "(إبراهيم:33) فلا بد أن مواقع ذلك السابح (هنا نقصد الشمس) في فلكه (ذو السَّمْك وليس المسار الخطي) ليست على نفس المستوى من صلاحيتها للاستقرار، مثلما أن الأرض نطاق وجود الإنسان (قرار) ولكن له فيها مواقع يستقر فيها دون كل الأرض، فيكون الفلك بجملته للسابح فيه (قرار)، وللسابح داخل الفلك مستقرات ينحو إليها بطبعه (خلقته) كما ينحو الإنسان لما يحقق له الاستقرار من مواضع في الأرض، والتي هي بجملتها قرار.

والسؤال هو: كيف يمكن تمييز هذه المستقرات داخل الفلك بالنسبة لسابح في الفلك؟!

لا يبدو أن تكون الإجابة لغوية فقط! ومثلما أن معرفتنا بمستقرات الإنسان على الأرض تأتي من تجربة حياة الإنسان على الأرض بمعرفته دواعي استقراره وما ينتقصها أو ينفيها، كذلك مستقرات الشمس (وأي سابح) في فلكه، لا تأتي إلا من معرفة تفصيلية بسلوك الشمس في فلكها. وهذا ما سنراه لاحقاً على التفصيل في المعلومات الفلكية.


3- بين السباحة والجريان:

الجامع بين السباحة والجريان هو الانتقال المتتابع. فكل سابح وكل جاري أو حتى ماشي ينتقل على نحوٍ مطَّرد في جهة ما. ولكن السابح يتميز بأنه مغمور في ما يسبح فيه بخلاف الماشي، أما الجاري فيتميز باندفاع وتعجل في انتقاله لجهة بعينها.

والسباحة تناسب أن يكون المسبوح فيه غمرٌ يتفيأ السابح غِماره، لذلك كانت السباحة في فلك، والذي هو – كما سبق أن بينَّا- نطاق ممتد، وإن كان مستديرا، ومنتهي من جهاته وإن كان فسيحا. وقد يكون السابح بطيئاً أو سريعاً، وقد يكون في مسار ما من الفلك أو أن مساره ينزاح مع الوقت قريباً أو بعيداً عما كان عليه، بما لا يُخرجه عن نطاقه الفلكي. ولا يجرح سباحته أي من هذه الأحوال. فكلٌّها جائز ولا تخرج عن مضمون السباحة.

أما الجاري، فيتميز عن الماشي وإن كان كلاهما سابح، فإن الجاري عادةً يكون جريه لهدف معين، وهذا غير ضروري في الماشي أو السابح على العموم. ولأن الجاري لهدف يتطلب قوة اندفاع توجهه لهذا الهدف فيكون أكثر خصوصية من أي جاري آخر لجهة ما غير مستهدفة، أو أن تكون مستهدفات الجري متعددة أو متعاقبة.

وعلى ذلك يكون الجاري لمستقر سابح مقيد (أي: متميز) بثلاث قيود (أي: صفات): تسارع، وقوة موجهة، وموضع مستهدف (أو مواضع متتابعة لأننا وجدنا أنه غير متعين بانفراد).

أما الموضع المستهدف فهو "المُسْتَقَر"، وأما "القوة الموجهة" و"التسارع" فغير معلومَيْن من اللغة وحدها، وعلينا أن نلجأ إلى علم الميكانيكا الفلكية!

وهنا نصل إلى أقصى ما يمكن للغة أن تفيدنا به، ويتطلب الأمر دراسة عيانية لموضوعها، أي جرم الشمس وميكانيكية حركتها في السماء.

4- الفرق بين يجري إلى، ويجري لـ :


غلب عند المفسرين معنى مستقر الشمس باعتباره موضعاً بعينه تذهب الشمس إليه وتنتهي عنده، حتى وإن عادت أدراجها منه، فهو لها كالغاية والنهاية. والسبب في هذا التصور المكافأة بين "تجري إلى" و "تجري لـ". والحقيقة أنهما غير متكافئان.

ونورد هنا الآيات التي أتت بمثل هذين التركيبين، أي؛ "إلى أجَل" و "لأجَل"، والأجل هو الزمن المضروب لحدث ما، أي الموعد:

إلى أجَل:

1- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ"(البقرة:282)

2- "وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا"(الحج:5)

3- "لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ"(الحج:33)

4- "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"(لقمان:29).

5-"فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ"(الأعراف:135)

6-"وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ"(النساء:77) [ذهب الطبري والرازي والشعراوي ... إلى أن أجل هنا هو الموت، ولا نراه كذلك، بل الأقرب أنهم يقصدون إلى وقت تالي – أي مزيد من الإمهال في عدم القتال- مثلما تأجل من وقت طلبهم إياه في مكة إلى بعد الهجرة في المدينة. وقولهم "قريب" ينم عن أن إمهال زمني سيكون محبب إلى أنفسهم ولو كان قليلاً، خشية من الموت. وقد رأينا لاحقاً أن سيد قطب ذهب في الظلال إلى ما ذهبنا إليه حين قال: (لو أن الله أمهلهم إلى أجل ، ولم يكتب عليهم القتال الآن!) ونقل تفسير المنار قول من قال: (الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ الْقَرِيبِ الزَّمَنُ الَّذِي يَقْوَوْنَ فِيهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِلْقِتَالِ بِمِثْلِ مَا عِنْدَ أَعْدَائِهِمْ)]

7-15 ... مزيد من الآيات ورد فيها "إلى أجل" بمعنى أجل الموت. ونضم إلى ذلك آية (لقمان:29) في شأن الشمس والقمر، باعتبار أن جملة - كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى – اعتراضية يخبر الله تعالى بها نبيه والناس خبر الشمس والقمر وأن أجلهما مسمى، فيكون " إِلَى أَجَلٍ " بمعنى نهاية أجل دورانهما، فلا يدوران بعدها.

والخلاصة من ذلك أن "إلى أجل" تستهدف موعداً غائياً يمكن أن يُلتهى عنه إلى حينه، أي لا ضرورة في الالتصاق بِتَرَقّبه.

لـ أجَل :

1- " ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ"(هود:103-104): نلاحظ هنا أن أجَل القيامة في هذه الآية لا التهاء عنه، بل متابعة وترصُّد، بدليل وصفه تعالى له بأن أجله "معدود".

2- "وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ"(الرعد:2)

3- "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى "(فاطر:13)

4- "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى"(الزمر:5)

وفي هذه الآيات الثلاث، لا نرى أن المقصود من الأجل هنا هو أجل نهاية جريان الشمس والقمر، بل الأقرب (بسبب ارتباط حرف الجر لـ بالأجل وليس ورودها (إلى أجل)) هو آجال جريانهما في الدنيا، فالقمر له آجال قدر الله تعالى على الإنسان أن يتابعها بغرض اتخاذها مواقيت، وهي منازل القمر، وخاصة الهلال، وذلك كما في قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ"(البقرة:189). كما أن الشمس لها آجال، منها منافع الناس من مواسم الزرع والحصاد، والصيف والشتاء، ومنها (المستقرات) وهذه التي جاء قول الله تعالى "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"(يس:38) لبيانها.

والخلاصة: أن "تجري لـ" تختلف عن "تجري إلى". فالثانية غائية لموعد منفرد يمكن الالتهاء عنه إلى حينه، أما إنْ تَتَالَى ذلك الموعد، وكانت متابعته ضرورية على الدوام، أتى الجريان له (أي تبعاً أو طلباً له) وليس جرياً إليه. وذلك كسائق السيارة يقودها لـ نهر الطريق، وإلا انحرفت، مع أنه يقودها في نفس الوقت إلى غايته!

مقاربات فيزيائية وفلكية:

معنى الاستقرار:
مقارنة بين معنى الاستقرار في عالم الأحياء وعالم الجمادات

 شكل (5): في عالم الأحياء: العامل الفاعل هو وفرة أسباب الحياة، وحيثما توجد يتجه الإنسان، وحيثما تنعدم يهرب الإنسان، وحيثما تتعادل يتنقل الإنسان. وهذا هو القانون الطبيعي للتنقل الحضري. وفي عالم الجمادات: العامل الفاعل هو السكون (انخفاض الطاقة)، وحيثما يستشعره الجسم على أي من نواحيه أو أطرافه يتجه ناحيته بقوة طبيعية. فيتجه إلى ما يحرره من الطاقة، ويهرب مما يشحنه بها، ويتنقل بحياد إذا تعادلت الطاقة من حوله. وهذا هو القانون الطبيعي لحركة الجمادات.
والآن، إذا كانت الشمس ساكنة لا تتنقل، ومستقرة في موضع دون سواه (أي: في مستقر)، فلا بد أن يكون وضعها كما بالشكل (5-ج) أعلى، ونقوم بإعادة رسمه في شكل (6) الآتي:.
شكل (6)

فإذا أزحنا الجسم (الشمس) عن مستقره، فسوف يعود إليه كما يتضح من الشكل، وذلك لوجود قوة جاذبة إلى المستقر (السهم الأحمر بالشكل -ج)، وإلا لما اتصف المستقر بهذه الصفة. وفي الشكل (-ب) استبدلنا شكل الإناء بسلك تعليق افتراضي، فحصلنا على البندول المألوف. ولم يتغير شيء في الآليات الميكانيكية، ومعادلات الحركة، إلا أننا تخلصنا من توهم وجود احتكاك يعوق حركة الجسم، ومن ثم أصبحت طاقة الجسم محفوظة، وضَمَنَّا مواصلة الجسم في حركته بلا توقف.

والآن إذا كان هذا الجسم هو الشمس، وكان ساكنا في البداية – أي مستقراً - قبل أن نؤثر عليه بزحزحته عن ذلك المستقر، وظل يتحرك محاولاً العودة إلى مستقره، وفي كل مرة يصل إليه، يكون قد تسارع وزادت سرعته إلى قيمة عظمى (السهم الأزرق بالشكل -ج)، فكيف نصف حركة الشمس في سعيها ذلك. نقول: لا نرى غرابة في أن الشمس تجري (أي تندفع تحت تأثير قوة) لـ مستقرها (لأنها ليس لها سوى هذا المستقر الذي كانت ساكنة فيه في البداية، وكان يحقق لها أدنى طاقة في محيطها)، ولننتبه في أننا قلنا مستقرها ولم نقل مستقر لها. ويشبه هذا أن سيارة ما يخرج بها صاحبها ثم يعود دوماً ليركنها كل يوم في كراج بيته، فهذا هو (مستقرها)، ولكن نفس السيارة على الطريق السريع وأثناء سفر متواصل، سيلجأ بها صاحبها إلى استراحات على الطريق، وعندئذ ستوصف هذه الاستراحات على أنها (مستقرات لـ )السيارة، وهذا هو الفرق بين (مستقرها) ، و(مستقرٍ لها).

ويبدو أننا اقتربنا من تأليف سياق حركي للشمس يقارب هدفنا من فهم قول الله تعالى "والشمس تجري لمستقر لها".

ولنلاحظ، أن الجسم (البندولي) في ذهابه وإيابه المبين، يمر بالمستقر ثم يتركه ويرحل، وهذا يوافق ما وصلنا اإليه من قبل في معاني المستقر، وما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من أن الشمس تذهب للمستقر وتعود تطلع من مشرقها لا يستنكر الناس منها شي، وأن هذا سيظل منوال لها وحتى ذهابها الأخير في الحديث الذي ستعود منه لتطلع من مغربها.

ولكن، ماذا لو لم تكن الشمس ساكنة في البداية كما افترضنا – وهذا هو الصواب - وكانت تتحرك في اتجاه مثل (أب) في شكل (7) الآتي؟

إذا كان الخط (أب) هو ما كانت تسكنه الشمس وتستقر فيه، وهي متحركة أبداً، قبل أن تتعرض للاعتراض من القوة (القوى) التي أخرجتها عنه، فهذا الخط (أب) هو مستقرها الدائم. ولكنها أخرجت من! وبحكم أنه كان مساراً مستقراً (مقيداً لها في مسار بقوة جذب مركزية بعيدة كمركز المجرة) فإنها ستعود إليه كما يعود البندول الساكن إلى مستقره في شكل (6) أعلى. وبعودة الشمس إليه، فإنها تعود لتلتقي به ثم تتجاوزه كما كان يتجاوزه البندول الساكن بسبب أنها تصبح سريعة الحركة ولا يمكنها التوقف عنده. أنظر شكل (7)


شكل (7)
وتكون نتيجة هذه الحركة المركبة أن تعود الشمس إلى مستقرها في المواضع المبينة باللون الأصفر، وهي الموضع التي تتقاطع فيها الشمس العائدة مع مسارها الأول.
وهذا التفسير يستوفي – على الراجح – المعاني التي فهمناها من قول الله تعالى "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"(يس:38).
غير أن هناك مزيداً من التفصيل. فللشمس في الحقيقة أكثر من مستوى من المواضع المستقرة، بعضها محتوى في بعض وليس واحدا فقط بالضرورة. وذلك مثلما أن للأرض مستقرات زمنية يومية محتواة في مستقرات زمنية سنوية، ... وهكذا.
مسارات الشمس ومستقراتها:
تسمى المجرة التي نرى أثرها بوسط السماء – وخاصة إذا كان موقعنا في استطلاعها في النصف الجنوبي من كرة الأرض  – مجرة درب التبانة The Milky Way. وتتحرك مجرتنا بالفعل في جهةٍ ما، ولكننا لن نستقصيها لأن العلم بهذه الحركة قد لا يفيدنا في دراستنا هذه. وتدور شمسنا في هذه المجرة على نحو معلوم بشكل جيد. وسنوجزه في الآتي:

1- تدور الشمس في مسار (شبه) دائري، دورة واحدة كل حوالي 250 مليون سنة أو أقل. وذلك بين حشود النجوم الدوارة حول مركز مجرة درب التبانة. وهذا هو المسار الذي نراه من (داخل المجرة) بتتبع العلاقة النسبية بين موقع شمسنا من جهة وقلب المجرة ومواقع وسرعات النجوم فيها من جهة ثانية، وذلك باعتبار باقي المجرات البعيدة خلفية ثابتة. ويمثل الخط (أب)، في شكل (7) المبين أعلى، جزء من هذا المسار الكلي لشمسنا حول المجرة لو كان مستقيما.

ويأخذ مسار الشمس في  مجرتنا الشكل الآتي:

 شكل (8)
وهذا الشكل صحيح، ومطابق للمعلوم من مسير الشمس، إلا أن تأرج الشمس حول مستوى المجرة مبالغ في قدر ارتفاعه وهبوطه لإظهاره بوضوح. كما وأن التأرجحات عددها 4، وقد يكون الأمر مختلفاً عن ذلك قليلاً، ولا يكون المسار منطبق على نفسه تماما الإنطباق. وتتطلب أرجحة الشمس صعوداً وهبوطاً حوالي 64 مليون سنة! والقوة التي تعيدها دائماً إلى مستوى المجرة هي الجاذبية الكبيرة لما في قرص المجرة من أجرام نجمية، فترتد الشمس عائدة وتسرع، إلا أنها تتجاوز القرص وتخرج منه إلى الجهة الأخرى، وتبتعد حتى تتباطأ وتعود مرتدة، وهكذا كما شرحناه أعلى على نمط البندول. ويكون بذلك مواضع مرور الشمس في قرص المجرة مستقرات للشمس تجري لها، وكلما أتتها تجاوزتها وواصلت مسيرها.
ويظهر في الفيديو التالي نمذجة رائعة لحركة الشمس وهي تحمل الكواكب، ومنها الأرض، غير أن هذه النمذجة خاطئة في عدد مما تسوقه لنا من معلومات، يمكن للقارئ أن يتنبأ بها إذا قارن بين شكل (8) أعلى وما في الفيديو(1) من مشاهد. وقد علقنا على الفيديو سريعاً بما رأيناه من تلك الأخطاء.



وعند هذا الحد، علينا أن نسأل: هل مستقرات الشمس المقصودة في قول الله تعالى "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"(يس:38) هي تلك المواضع التي تلاقي فيها الشمس قرص المجرة كما تنبأنا أعلى في تحليلاتنا؟
نقول: يظهر من التحليل الذي أسلفناه بأن الإجابة ينبغي أن تكون: نعم.
ولكن، هناك إشكال كبير، وهو أن بين كل التقائين بين الشمس وقرص المجرة (أي بين كل مستقرين متتاليين) زمن طويل يصل إلى طول محيط دوران الشمس حول المجرة مقسوماً على 8 كما يظهر في شكل (8) أعلى (أي عدد الانتقالات من اللون الأبيض إلى الأسود على المسار المبين). وحيث أن زمن الدورة المجرية = (224-240) مليون سنة، فيكون الزمن المنقضي بين كل مستقرين هو (224-240) / 8 = (28-30) مليون سنة تقريباً!
ولكن، هذا لا يستقيم مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فيه أن الشمس تذهب إلى مستقرها وتعود مراراً لا يستنكر الناس منها شيئاً. أي أن هذه الظاهرة لا بد أن تحدث في عمر البشرية مرات عديدة، أي أن دورة استقرارها قصيرة العمر بما لا يزيد عن آلاف السنين على أقصى تقدير، دون وجود قيد عن ما هو دون ذلك (وربما إلى آحاد السنوات). أما أن يصل عمر الدورة إلى 28 مليون سنة، فهذا غير مقبول. والسبب أن عمر البشرية كما قدرناه سابقاً (أنظر دراسة: عُمْر البشرية، ومنحنى نقصان عُمْر الإنسان لن يزيد عن 3 مليون سنة بأي حال من الأحوال، وذلك إذا جنحنا إلى نهاية الدالة التي استنبطناها هناك. لذلك، نضع هذه النتيجة جانباً الآن لأنها لا تحقق المقصود، وإن كانت مفيدة في علاقتها بها على نحو ما سنرى.
2- قلنا أن المستَقَر للمتحرك (أي: الشمس) هو المسار الذي يحقق له أدنى طاقة (مجالية، كالبندول). فإذا ما أخرج عنه بقوة عارضة فإنه سرعان ما يجنح إلى العودة إليه، وتكون نتيجة ذلك أن يتأرجح الجرم المتحرك حوله، كلما فاته عاد ورجع إليه. وقد كان المسار الراسخ للشمس الذي يحقق ذلك هو مستوى قرص المجرة، ولما أزيحت عنه الشمس - بفعل تفاعلها التجاذبي مع غيرها من سدم وأجرام نجمية في لحظات نشأتها- حاولت العودة إليه، فكان التقائها به 8 مرات في كل دورة كاملة حول المجرة على نحو ما تم استنباطه من الأرصاد.

والآن، أصبح هذا المسار المبين في شكل (8) ذو الثماني عقدات (مواضع الاستقرار) هو المسار المستقر الذي أصبح لزاماً على الشمس أن تتمسك بالبقاء فيه. ويأتينا السؤال التالي رغم أنفنا: ماذا لو اعترض الشمس قوة تخرجها عن هذا المسار المِجَرِّي؟ 

للإجابة عن هذا السؤال نتفحص حالة الشمس جميعاً، فنجد أنها تسير وسط حشد من النجوم، ويدورون جميعاً حول مركز المجرة في اتجاه واحد  مع عقارب الساعة، وذلك باعتبار أن اتجاه الشمال المجري (الاصطلاحي) إلى أعلى. وتقدر سرعة دورانهم حوالي 220 كم/ث. غير أن سرعاتهم البينية متفاوتة مثلما تتفاوت سرعة السيارات التي تجري على طريق سريع واحد. وتجاوز الشمس جيرانها من النجوم بفارق سرعة تم حسابة بـحوالي 19.6 كم/ث.

ونورد في جدول (1) قائمة بأقرب خمسة نجوم من الشمس، والقائمة طويلة لمن أراد المزيد(7)(8). غير أننا معنيون بما يحقق منها التأثير الأكبر على الشمس، وهذا سيتحقق فقط لدى النجوم الأكبر كتلة، والأقرب مسافة. لذا يكفينا ما هذا الجدول، وخاصة نجمي رجل القنطور، والشعرى اليمانية.

جدول (1)

والآن، تجري خطتنا لاختبار تأثير هذه النجوم (الأكبر كتلة) على الشمس، ولنقارنها بتأثير كواكب المجموعة الشمسية على الشمس، وخاصة أكبرها حجماً، أي كوكب المشتري.

ولما فعلنا ذلك(9)، وجدنا أن تأثير نجم رجل القنطور أكبر من تأثير الشعرى اليمانية، ثم وجدنا أن تأثير رجل القنطور على الشمس أضعف من تأثير كوكب المشتري بنسبة جزء من مليون جزء. 

والنتيجة أن تشويش أكبر الكواكب العملاقة في المجموعة الشمسية (أي المشتري) على مسار الشمس في مجرة درب التبانة أشد مليون مرة من تشويش النجوم القريبة ممثلة في أكبرها كتلة (رجل القنطور).

والخلاصة في ذلك إهمال تأثير النجوم القريبة على مسار الشمس مقارنة بكواكب المجموعة الشمسية. ومن ثم، نتوجه الآن لنرى كيف تتأثر الشمس بالكواكب التي منها الأرض في مسارها المستقر حول المجرة. (ولنتذكر أن هذا هو المستوى الثانية من الاستقرار، حيث أن الأول هو مستوى قرص المجرة الذي تذهب إليه الشمس مرة واحدة كل 28 مليون سنة تقريبا) 

تأثير الكواكب على مسار الشمس:

إذا افترضنا أن الشمس ساكنة، ولا تتحرك على مسارها المجرِّي (المبين في شكل (8))، وإذا افترضنا أن كوكب المشترى وحده يدور حول الشمس، فماذا نتوقع له من تأثير عليها؟

تقول الميكانيكا الفلكية أن تأثير كوكب المشترى وحده يشبه ما نراه في الشكل الآتي (أنقر الصورة):
Hammer Thrower Comparison
شكل (9)

ويُعد فهم هذه الحركة الميكانيكية يسيراً للغاية، إذ أنه ليس إلا اتزان كتلتي الشمس والمشترى حول مركز ثقلهما المشترك، تماماً كالميزان القبان الذي كان يستخدمه أجدادنا، والذي به ذراعان أحدهما طويل والآخر قصير كما بالشكل (10). 

شكل (10)

ومعلوم أن الاتزان يحدث عندما توضع الكتلة الكبيرة على الذراع القصير، والكتلة الصغيرة على الذراع الطويل، وتكون نسبة الذراع الطويل إلى القصير كنسبة الكتلة الكبيرة إلى الصغيرة. وفائدة ذلك معلومة، وهي أن الميزان يستخدم في قياس كتل كبيرة جداً، دون الحاجة إلى وضع صنجات مكافئة كالميزان المتساوي الأذرع. حيث كان يقاس به أحمال المحاصيل الزراعية، وحالياً تقاس به أوزان السيارات وخاصة سيارات النقل لمعرفة حمولاتها الكبيرة.

والفرق بين النظام الشمسي وهذا الميزان هو في مسألة الدوران، حيث أنه لو أدير الميزان المعروف حول عمود التعليق (أي مركز الثقل) لما اختلف في شيء عن النظام الشمسي ودوران الكواكب وحتى الشمس نفسها حول مركز الاتزان.

ونقول لإخواننا الذين ما زالوا يُصرون على أن الشمس هي التي تدور حول الأرض: إصراركم هذا يماثل إصرار من يجبر الميزان القبان على أن يتزن بوضع الكتلة الصغيرة على الذراع القصيرة والكتلة الكبيرة على الذراع الطويلة. وهذا ما لا يمكن أن يحدث. ويبدو لنا أن تفسيرنا هذا - في اتزان الأجرام السماوية - هو مراد الله تعالى في قوله سبحانه "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ"(الرحمن:7).

والآن، ماذا يحدث لو أضفنا باقي الكواكب تباعاً لنزنها قبالة الشمس كما فعلنا مع كوكب المشترى؟!

الحاصل أن كل كوكب سيؤثر على الشمس كما لو كان هو وحده المنفرد بالتأثير عليها، وعندها تعاني الشمس من مجموع هذه التأثيرات جميعاً، والتي تدفعها في جهات عديدة لاختلاف أوضاع الكواكب، وستأخذ الشمس الوضع المُحَصِّل لكل هذه التأثيرات، والنتيجة، هي ما نراه في الفيديو التالي:


وإذا ما رسمنا موقع الشمس بالنسبة لمركز اتزان المجموعة الشمسية لحصلنا على الشكل الآتي(9):

شكل (11)

ويقول هذا الشكل أن الدائرة الصفراء الكبرى تمثل الشمس حجماً وموقعاً. ولا تقع الشمس في مركز الاتزان تماماً إلا إذا توازنت تأثيرات الكواكب عليها وألغي بعضها بعضا، وعندئذ ينطبق مركز الشمس مع النقطة السوداء التي تمثل مركز الاتزان. وهذا لا يحدث إلا في أزمان مخصوصة، وقد وصلت الشمس أقرب ما يكون من هذا الوضع المتزن - أي المستقر - (لو لاحظ القارئ من الشكل خلال الفترة المبينة) حوالي شهر مايو عام 1951، وحوالي شهر إبريل من عام 1991. وفي غير هذه الأزمان المخصوصة - تبتعد الشمس وتقترب حتى يكون بينها وبين مركز الاتزان كما بينها في الصورة وبين النقاط السوداء في الشكل من مسافات (حسب الأزمان المدونة).

ويمكن أن نطالع نمذجة حقيقية (10). لحركة الشمس حول مستقرها عبر فترة محدودة، ومعها مواقع الكواكب، عبر التسجيل الآتي:


مواضع اتزان - مستقرات - الشمس عبر التاريخ (منذ 3000 ق. م. - وحتى 3000 ميلادية إذا شاء الله تعالى):

يظهر في الشكل الآتي حساب العزم الزاوي للشمس حول مركز اتزان المجموعة الشمسية عبر 6000 سنة شمسية(11).

شكل (12)

ويلاحَظ أن المحور الصفري (باللون الأحمر) قد وصل إليه العزم الزاوي للشمس في المواضع المؤشر عليها (بالأسهم والنقاط الملونة). ويعني وصول العزم الزاوي الشمسي للصفر أن الشمس قد وقعت في مركز ثقل المجموعة الشمسية تماماً. هذا وقد ميزنا بين نوعين من الوصول للصفر الزاوي، الأول (باللون الأصفر) وهو وصول للصفر دون تجاوزه، وهذا هو السلوك الطبيعي، أما الثاني (باللون الأحمر) فهو تجوز العزم الزاوي للشمس للصفر الزاوي، ودخوله في عزم زاوي سالب القيمة، ويسمى هذا السلوك دوران عكسي للشمس حول مركز الاتزان (لفترة زمنية قصيرة لا تتخطى أيام)، وهذا السلوك مثير للغاية لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه ارتباط بين ذهاب الشمس للمستقر، وانعكاس طلوعها على الأرض. وهنا نتكلم عن مستقر المجموعة الشمسية وحركة زاوية عكسية للشمس. ونعلم أن هواة الإعجاز العلمي لن يتركوا فرصة مثل هذه إلا ويقتنصوها (لو علموها). ولكننا لن نفعل ذلك، بل لا نرى ارتباطاً حقيقياً بتفسير الحديث، لأن هذه الحركة العكسية للشمس لن تعكس حركة الأرض اليومية للشمس بالنسبة للأرض - والتي تنتج عن دوران الأرض حول نفسها - وهذا هو بيت القصيد في حديث النبي والذي ينتج عنه أن تطلع الشمس من مغربها، أما هنا في حالة العزم الزاوي السلبي للشمس، فالأمر يرتبط بثورة داخلية في جوف الشمس نتيجة وقوعها في المستقر، والذي فيه يكون التنازع بين الكواكب على أشده عليها؛ كلٌّ يجذبها إلى ناحيته، وخاصة الكواكب العملاقة (المشتري وزحل، وبدرجة أقل نبتون وأورانوس). لذا، نرجح أن هذا الهياج الداخلي للشمس - والذي ربطه البعض بالبقع الشمسية، سيعدل مركز الشمس نفسها في غير مركز الدائرة الهندسي البسيط. وذلك مثلما يحدث عند قذف بالونة  مملوءة بالماء، أن تتحرك أجزاؤها الداخلية بالنسبة لبعضها، مما يجعلها غير متجانسة، ولا يكون مركز ثقل البالونة هو مركزها الهندسي. لذلك، فالعزم الزاوي السلبي للشمس له تفسير طبيعي لا علاقة له بطلوع الشمس من مغربها على نحو ما قد يظن بها المتهافت على الإعجاز.

ويلاحظ أننا وضعنا أربعة أسهم على الشكل (12) أعلى، وذلك على أربع التقاءات للشمس بمركز اتزان المجموعة الشمسية (المستقرات)، ونعيد في الشكل التالي(12) بسط هذه المنطقة الزمنية لمزيد من الوضوح والتحليل:

شكل (13)
ولنا هنا ملاحظات:

1- أن الأربع مواقيت (أي: مواقيت المستقرت، وهي السنوات: 1632، و 1811، و 1990، و2169)  تحصر بينها ثلاث فترات زمنية، وأن هذه الفترات الزمنية تكاد تتساوى، وتم تقديرها - إذا أخذنا القياسات بمزيد من الدقة - بالقيمة: 178.8 سنة تقريبا.

2- أن نمط تغيُّر العزم الزاوي للشمس، أي: تقاربها وتباعدها عن المستقر في هذه الفترات الزمنية الثلاث يكاد يتطابق في الفترات الزمنية المتساوية القيمة، وهذا هو السبب في وضع هذه الفترات أسفل بعضها لملاحظة هذا التطابق. (فلينتبه القارئ ويرى كم هو التطابق رائع، رغم وجود بعض الاختلافات الطفيفة). ويكمن أهمية هذا التطابق لنا في موضوعنا في إبراز دورية واضحة لحركة الشمس، حتى وإن كانت هذه الحركة الدورية مرتبكة، وذلك في سعي الشمس، بما يؤثر عليها من قوى، في الوصول إلى عزم زاوي صفرى، وهو الأمر الذي يعيدها إلى مستقرها بين الكواكب، والذي يقع بالتمام على مسارها حول المجرة. والذي لو انعدمت تأثيرات الكواكب عليها لكان مستقرها القريب دائماً، ولم يتبقى لها إلا المستقر البعيد.

نتيجة الدراسة

ويلخص الشكل الآتي نتائج هذه الدراسة، من بيان لمواقع مستقرات الشمس البعيدة، والقريبة. وهذه المستقرات القريبة والتي تتكرر كل 170-180 سنة في القرون الأخيرة هي التي نرشحها بأنها المرادة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: أتدرون أين تذهب الشمس .... الحديث، هذا والله تعالى أعلم.

شكل (14)

الخلاصة:

1- تجري الشمس في مسار لها حول المجرة (درب التبانة) وتتناوب بين الصعود والهبوط كالبندول بالنسبة لمستوى قرص المجرة أربع مرات تقريباً في كل دورة كبرى كاملة حول المجرة، تقطعها في 240 مليون سنة، وبما يجعل لها ثماني التقاءات - أو عُقد - بمستوى المجرة. ونسمي هذه المواقع الثمانية للشمس المستقرات الكبرى. ويمر بين كل مستقرين متتاليين فترة زمنية طويلة تصل إلى حوالي 28-30 مليون سنة.

2- وعبر هذا المسار البندولي للشمس تتعرض الشمس لتشويش الكواكب لحركتها، بما يشبه الجنوح عن المسار يمنة ويسرة، وبما يحرفها عن ذلك المسار لمسافات كبيرة في نفس مستوى الكواكب السيارة حولها، وتقدر في أقصاها بحوالي 1.4 مليون كيلومتر. ولكن الشمس لا تلبث أن تعود لتتزن بين الكواكب في ذلك المسار الأول عينه، وقد علمنا مواعيد تلك العودة للمسار المستقر للشمس على مدار 6000 آلاف سنة، وكان الموعد الفائت سنة 1990-1991 ونعلم أن الموعد التالي للتطابق التام مع المستقر هو سنة 2169، غير أنها ستقترب من المستقر كثيراً على فترات أقرب، منها سنة 2030 لحدٍّ ما، وسنة 2130 لحدٍّ كبير (أنظر شكل (13) أعلى).

3- وعلى ذلك نسمي هذه المواضع التي تعود فيها الشمس لتتزن بين الكواكب عبر مسارها في المجرة، وأزمانها المشار إليها، بالمستقرات القريبة للشمس. ولا يمتنع أن يكون للشمس مستقرات قريبة ومستقرات بعيدة. ولتقريب هذا المعنى نُذّكِّر القارئ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ربط بين مستقر الشمس وسجودها، وأنها مواضع وأزمان مخصوصة تسجد (أي تُسَبِّح) الشمس فيها لخالقها. وكما جعل الله تعالى للمؤمنين على سبيل المثال سجدات يومية (الصلوات الخمس) قريبة من بعضها، وسجدات أسبوعية (الجمع) متباعدة قليلاً، وسجدات سنوية (عيدي الفطر والأضحى) أكثر تباعداً، وسجدات أكثر بعداً (العمرة والحج)، فليس غريباً ولا ينبغي أن يُستنكر أن تتعدد مستقرات الشمس التي تسجد فيها لله تعالى. وربما يكون للشمس مستقرات أعلى من المستويين اللذين تعرفنا عليهما، وذلك مع حركة مجرة درب التبانة بين حشود المجرات، والتي أهملناها في هذه الدراسة. 

4- أزلنا بهذا التفسير الارتباط الموهوم بين غروب الشمس اليومي وذهابها المقصود للسجود. وأتينا بقصة رمزية أوضحت الصورة لمن تبصّر بها.

5- لم يعد غريباً بعد هذا التفصيل أن توصف تلك المستقرات التي تمر بها الشمس كل 178 سنة (أي القريبة) وتلك التي تمر بها الشمس كل 28 مليون سنة (البعيدة)بأنها تحت عرش الرحمن! حيث أن أجرام السماء ومجراتها إذا غادرنا الأرض ورحلنا مع الشمس في رحلتها، ليست إلا تحت عرش الرحمن؟! جل شأنه وتعالى فوق في عرشه العظيم. ولا ينبغي أن يخدعنا النهار بأن الشمس على بهرجها الذي نراه لها، إنما ذلكم قول الله تعالى "والنهار إذا جلاها"، فما الشمس في الكون إلا نجم متواضح يسبح كما تسبح المليارات من حبات الرمال في بحر السماء.

6- تبقى لنا أن نتدبر رحلة الشمس الأخيرة - بالنسبة لنا - إلى تلك المستقرات، والتي لن تطلع بعدها على الأرض من مشرقها، بل ستطلع من مغربها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية حديثه الشريف الذي نحن بصدده. ونجعل لهذا الغرض موعد تالي بإذن الله تعالى.

7- استدراك هام للغاية أضيف لاحقاً (11 مايو 2013):
معنى جديد للسجود في جرم الشمس: رأينا أن الشمس في المستقرات القريبة التي تعرفنا عليها تقع تحت تأثير الكواكب موزعة عليها من جميع الجهات بحيث تتزن الشمس بينهم جميعاً. ونتيجة لجذب الكواكب العملاقة على الخصوص، والتي ينبغي أن تكون على جهات متقابلة، يمتط جرم الشمس المائع-الغازي المتأين في بنيته، وذلك مثلما يمتط مياه المحيطات والبحار على الأرض جهة القمر فيرتفع عن مستواه العادي ونتعرف عليه بإسم المد حيث يغمر الشواطيء، وفي المقابل ينحسر عن الشواطئ التي على جوانب الأرض بعيداً عن القمر، وهو ما نتعرف عليه بإسم الجذر. فكذلك تمتط الشمس في جهات الكواكب العملاقة المتقابلة، فينتج عنه هيئة مميزة للشمس وكأنها قد امتدت وانبطحت فكانت دائرة استوائها في مستوى الكواكب أكبر ما تكون عليه سعةً، وينتقص ذلك من قطرها الرأسي. وهذا الوصف أشبه ما يكون بحالة التطامن والامتطاط الحاصل في سجود الساجدين. ويحضرنا هنا ارتباط وصفي مع امتداد ظلال الأشياء، والتي يمكن أن نُقرنها بقول الله تعالى "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ"(الرعد:15). ومعلوم أن هذه الهيئة من التمطي للأجسام أو الأشياء، والتي تعبر أيضاً عن أقصى درجات الضعف أو الخضوع أو التبعية أو الاستسلام أو التسليم - أو الإسلام إن شئت - أو جملة من ذلك كله، تسمى سجوداً كما في سجود إخوة يوسف له. !!!  .........  

ملاحظة: انتبهت لهذا المعنى من مقارنة هيئة الشمس في مستقرها بين الكواكب حين الاتزان، ومحاولة ترجمة كلمة تسجد، فوجدت أنها بالإنجليزية prostrate وهي تعني بالعربية الامتطاط والتمدد مع إنهاك في القوى وذل وانكسار، ومن ثم تصف حالة الساجد. وهي حالة تنطبق على حالة الشمس تتنازعها الكواكب في حالة الاتزان، كلٌّ يجذبها نحوه. هذا والله تعالى أعلم.

8- أستدراك (بتاريخ 4/ 11/ 2017):
هناك قراءة شاذة نصها هو (والشمس تجري لا مستقر لها)، 
أنظر في ذلك https://islamqa.info/ar/140717
والسؤال هو:
ما وجه التفسير الذي قدمناه أعلى لو أن هذه الرواية صحيحة، والتي يبدو في الظاهر أنها تنفي المستقر؟!

الإجابة:
هذه القراءة لا تنفي تفسيرنا أعلى بمعنى (مستقر الشمس) 
بمعنى أن كلا القراءتين محققة في التفسير المقدم أعلى، وذلك كالآتي:

لما كان المستقر هو ما تسعى الشمس إلى الوصول إليه، وتصل إليه حقا، فهذا يحقق قراءة (تجري لمستقر لها)
وحيث أن التفسير أعلى يقول بأن الشمس لا تسكن عند هذه المستقر سكونا قاراً، بل ما أن تصل الشمس المستقر حتى تواصل مسيرها وتتجاوزه، فهذا يحقق أن المستقر ليس مستقر سكوني، بل مستقر ديناميكي. وذلك كما بينا في الشرح أعلى من أن مستقر الشمس الذي اقترحناه يشبه مستقر بندول الساعة المتأرجحة. فالبندول يسعى على الدوام إلى الوصول إلى موضع الاستقرار السفلي على مساره، إلا أنه لحظة الوصول إليه يكون جارياً بلا توقف، فيصبح المستقر هنا مَسْعِيٌ إليه ومَوْصُولٌ إليه، إلا أنه لا سكون قار فيه، ومن ثم يحقق قراءة (لا مستقرٍ لها). والنتيجة أن القراءتين محققتان في التفسير المقدم أعلى.

ويُسَمَّى تعدد القراءات التي تنضاف معانيها جميعاً بلا تضارب بـ (تزاحم المعاني)؛ أي أن القراءات الصحيحة إذا تعددت كان من حكمتها أن معانيها تتزاحم في الآية الواحدة، وذلك مثل القراءتين في سورة الفاتحة (مالك يوم الدين)، و(ملك يوم الدين). لأن المالك قد لا يكون ملكا، والملك ربما لا يكون مالكا. فكانت القراءاتين متزاحمتي المعاني، ومن ثم يستوفيان من المعاني ما لا يتحقق إلا بكونهما صحيحتان جميعاً.

هذا والله تعالى أعلى.

----------------------------------------------------------------------------------

الهوامش والمراجع:


--------------------------
[1] مجلة المنار، مجلد 32/ العدد 785 – المقال التاسع.

وأيضاً:  "مشكلات الأحاديث النبوية" – عبدالله القصيمي، المجلس العلمي السلفي، شيش محل رود، لاهور، باكستان، ص 110-114. و "ضلالات منكري السنة" - طه حبيشي، ص 433.
[2] تفسير "روح المعاني"، شهاب الدين الألوسي، 
[3] المنار، 32/المقال التاسع ص785.


[4] سنهمل الرد على الحمقى والجهلاء الذين يهاجمون الإسلام بسوء طويتهم، أو بسبب من أخطاء التفسير المنتشرة على الإنترنت التي يعمدون إلى تصيدها للطعن في الإسلام، ومن أمثالهم في المسألة التي ندرسها من يتعالم على الشيخ محمد حسان على الرابط التالي:
[5] تنوير المقباس من تفسير ابن عباس، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817هـ)، دار الكتب العلمية – لبنان.

[8] http://www.chara.gsu.edu/RECONS/TOP100.posted.htm
http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_nearest_stars
[9] تم اكتشاف نجم مزدوج سنة 2013 حمل اسم WISE 1049-5319 ويبعد عن الشمس مسافة 6.6 سنة ضوئية، وهذا يضعه في الترتيب الثالث في الجدول (1)، ولأنه من نوع النجوم الأقزام البنية Brown Dwarf، فكتلته صغيرة للغاية، ولن يغير من نتائجنا الحسابية في شيء، وذلك لأن الأقوى في التأثير هما نجمي رجل القنطور، والشعرى اليمانية، والمؤشر عليهما بالجدول.